د. عبدالله باحجاج
صَادَف خلال الساعات الماضية مرور خمس سنوات على التوجيه السامي لعاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- بتوحيد منافع أنظمة التقاعد في البلاد، وفقا لنظام تقاعد موظفي ديوان البلاط السلطاني، ولم يرَ النور؛ فقد كان ذلك في الحادي عشر من نوفمبر عام 2013، وقد تولد لدينا فجأة الإحساس بهذا المرور الزمني، عندما كُنا نفكر في مآلات أوضاع المتقاعدين السابقين، ونظرائهم الذين استلمُوا الخطابات الرسمية بتقاعدهم القانوني في يناير 2019.
ورغم مرور أكثر من خمس سنوات، إلا أنه لا يزال الآلاف من موظفي الخدمة المدنية ينتظرون بقلوبهم ومشاعرهم توحيد المنافع والمزايا لصناديق التقاعد؛ لأسباب عدة، تسببت في تأخر إنجاز الأوامر وتضرر الموظفين نتيجة لذلك.
كم هو مُقلق فعلًا الشعور -لمجرد الشعور- بأن راتبك الشهري الذي تمَّ استحقاقه بجهد وعرق ستين عاما، سيتهاوَى إلى النصف بعد تقاعدك، وأنت لا تتوافر لديك أية مصادر دخل أخرى، وأنت لا تزال تعيل أسرة فيها شباب في سن الدراسة، والتزاماتك الإنسانية لم تتوقف بمجرد تقاعدك!!.. إنَّها مسألة تبدُو كمن ينتزع منك سنين حياتك في خدمة الدولة، يسقط جدك واجتهادك، إخلاصك وولاءك، إنه تجريد للحقوق في مرحلة الاستغناء عن خدمات مواطن، وعندما ننتقل من مجرد الشعور إلى الواقع، ونحاول أن نتلمَّس نفسيات المتقاعدين، سنرى الرعب بعينه في تهاوي الراتب، أقل ما يمكن وصفه بأنه راتب "غير عادل"؟ وهذا التوصيف نستمد شرعيته من تلكم المآلات، ومن تعارضه الصارخ مع أنظمة التقاعد في البلاد، المتعدِّدة والمتنوعة والتي تمنَح منافع آمنة لموظفيها؛ سواء في راتب التقاعد أو مكافاة ما بعد التقاعد، بينما نظام تقاعد الخدمة دونها كثيرا، وليس هناك وجه للمقارنة معها. و"غير العادل" صفة ليست تجنيًا على نظام الخدمة المدنية، وإنما هي أقل وصف يُمكن أن يطلق عليه، وإذا ما أردنا الاستدلال على شرعية هذه الوصف حتى يُمكن تمرير هذا الوصف على المعنيين، فإننا ينبغي التذكير بالتوجيه السامي سالف الذكر، من حيث دوافعه وأسبابه، وبلا شك فإنَّ الذكرى الخامسة لمروره السنوي نجدها مناسبة مواتية لذلك.
هنا، قد تبدو لنا المسألة صادمة للوعي؛ فالتوجيه السامي قد اتَّخذ صفة الأمر للسلطة التنفيذية بتوحيد منافع التقاعد، ولماذا الأمر؟ لمعالجة الاختلالات الكبيرة في أنظمة التقاعد، وبالذات تقاعد موظفي الخدمة المدنية، وهنا البُعد الإنساني الواضح في تجليات الأمر/التوجيه، وهو انتشال موظفي الخدمة من تقاعد يُسقط حقوقهم إلى القاع دون غيرهم من موظفي الدولة. من هنا، فالأمر السامي جاء ليُعيد الاعتبار لهذه الحقوق بصورة لا لبس فيها. وهناك دليل آخر يُرسِّخ هذا اليقين، وهو أن الأمر السامي قد جعل نظام تقاعد موظفي ديوان البلاط السلطاني، كمرجعية لتوحيد جداول الدرجات والرواتب لموظفي القطاع المدني بوحداته وهيئاته ومؤسساته.
وهنا، تصلنا الغاية الإنسانية لقائد هذه المسيرة المباركة من مسألة التوحيد بصورة لا لبس فيها ولا غُموض؛ فجلالته يحرصُ على أن تكون منافع ومزايا موظفي الدولة أسوة بالمؤسسة اللصيقة بشخصية عاهل البلاد -حفظه الله- وهى ديوان البلاط السلطاني. وهنا، نوضح بجلاء مكرَّر وبصَوت عال، تجليات الغاية السامية من توحيد أنظمة التقاعد وفق مرجعية محددة بذاتها، تستفرد بمثالية المنافع في الراتب التقاعدي وفي مكافأة ما بعد التقاعد، وهذه المثالية، هي التي يريدها جلالته -أيده الله- لكل موظفي القطاع المدني، وهي رغبة عالية الإنسانية، ولها كذلك بُعدها الوطني، وهو وضع حدٍّ للتشطيرات النفسية الناجمة عن وجود أكثر من عشرة صناديق للتقاعد في البلاد، تمنح رواتب تقاعدية متباينة ومكافأة مالية تقاعدية صارخة. ومن هنا، فإنَّ توحيد الصناديق يُظهِر لنا غايتها الوطنية في توحيد النفسيات، والمحافظة على ولاءاتها وانتماءاتها، وتحسين أوضاع شعبه المالية، ولا يمكن إسقاط أهمية ودور البُعد النفسي الاجتماعي في تأسيس قوتنا الديموغرافية العمانية التي تُرَاهن عليها البلاد لمواجهة تحديات مقبلة، مثلما واجهت به فعلا تحديات الانتصار على حالة الانفجار المتوارثة من مرحلة ما قبل 1970، وكذلك انتصارها المطلق على مخلفات التخلف الشامل لتلكم المرحلة ونجحت بصورة مدهشة.
إذن؛ لماذا لم يتم توحيد منافع ومزايا أنظمة التقاعد في البلاد حتى الآن؟ يستدعي المرور السنوي لأمر توحيد منافع ومزايا التقاعد، طرح هذا التساؤل. فرغم مرور أكثر من خمس سنوات، فكل الموظفين ينتظرون بقلوبهم هذا الأمل، وفي كل سنة يحال إلى التقاعد الآلاف برواتب تقاعديه هزيلة -نصف الراتب حسب الرواتب- ومكافاة مالية غير عادلة تماما لن تتجاوز 12 ألف ريال للقلة وليس للكل، بينما صناديق أخرى تصنع الأمان في راتب التقاعد، وتُنصف الموظف بمكافأة تقاعد قد تصل إلى أربعين ألف ريال، يمكن من خلالها تصفية الموظف ديونه، وتحرير راتبه من الأقساط الشهرية أو إنجاز مشروع اقتصادي كمصدر بسيط للدخل، فهل حُجة الحكومة مالية؟
يفترض من حيث المبدأ أنْ لا نقبل التسليم بهذه الحجة أبدا، على اعتبار أن صندوق الخدمة المدنية على غرار بقية الصناديق الأخرى هي صناديق استثمارية؛ حيث تذهب إليها كل شهر مُساهمات الموظفين والحكومة منذ البدايات الأولى لمرحلة الثمانينيات، ويُفترض كذلك أن تكون لها عوائد مالية كبيرة الآن تغطي متطلبات توحيد الرواتب والمكافأة، وأي خلل في هذه الصناديق لا ينبغي أن يدفع ثمنه المواطن، بل من كان سببا فيه، فتحميل المواطن تبعات أخطاء أو تقصير إدارات عمومية، هو عنوان كل مراحلنا السابقة، وعدم نجاح سياسة تنويع مصادر الدخل أفضل نموذج نُقدِّمه هنا؛ لأنَّ هذا الإخفاق لم تكن وراءه رقابة ومساءلة تضمن تجاوزه، وتعمل على تحقيق النجاح؛ فكان لهذه الإدارات قرارٌ مُطلق. وهذه السلطة الإدارية لا تزال قائمة، ولم تُحاسب في قضية عدم تنفيذ الأمر السامي في توحيد منافع ومزايا التقاعد رغم قوة الأمر، من حيث ضوابطه وشروطه التي تميل نحو ضمانة حقوق الموظفين، كما أشرنا إليه سابقا.
هنا، نُضيف حاكمًا آخر أكثر قطعية، وأبلغ انكشافًا للإرادة السياسية لتوحيد منافع ومزايا صناديق التقاعد، وهو أنَّ الأمر السامي بالتوحيد قد حدَّد أقصى فترة زمنية لتطبيقه، وهو الأول من يناير عام 2014، أين نحن الآن من هذا التاريخ الاستحقاقي؟ يفترض العمل بهذا الامر، أن تكون المساواة "الواقعية" بين الموظفين قد تحققت، وأنه قد وضع حدا نهائيا في ذلك التاريخ للآلام الأسرية من تداعيات تقاعد "غير عادل"، لكن هذا لم يحدث للأسف.
فما السر؟! تساؤل كبير، والاجابة عنه اختصارا سنجدها في الإدارة التنفيذية، التي تعصف فكرها في اتجاه واحد فقط، وهو البحث عن مسوغات المماطلة، وابتكار حجج العرقلة. لذلك؛ فإن المرور السنوي الخامس لهذا الأمر السامي يجعلنا نطالب بإدارة تنفيذية من المواطنين أو تحس بالمواطن، وليس إدارة اقتصادية ومالية أعلى، لا تعرف عن معاناة المواطن، بل وتقلل من كل كتابات تكشف عن تفاصيل معاناته، نتطلع لمثل هذه الإدارة للإمساك بمفاصل التنفيذ، وتتناغم مع الجوانب الإنسانية لشخصية قائد البلاد، ويكون لديها حسَّاس مرتفع، وبغاياتها الوطنية، لو وجدت هذا النوع من الإدارات، لعصفت فكرها بحثا عن إمكانية التنفيذ، مهما كانت الصعاب، وليس العكس. فهناك من الإدارات التنفيذية كانت -ولا تزال- إمَّا تعيش في أبراج عالية، أو يغلب على فكرها البُعد الاقتصادي والمالي؛ لذلك نتطلع إلى من يُمثل الوسط الاجتماعي في الإدارة التنفيذية، ويكون لها نفس التأثير على صناعة القرار حتى نحقق التوازن لمجموع المصالح في البلاد.
وأخيرا.. لابد من التفاؤل، وله أسبابه؛ أهمها: الوضعية المالية المستقرة للبلاد بعد تحسُّن أسعار النفط، ودخول إيرادات إضافية كبيرة للغاز لخزينة الدولة، كما أن المرور السنوي لذكرى نوفمبر المجيد، قد عوَّد المجتمع على أن يترقب بشائر نوفمبرية، ونكاد نرى هذه البشائر في صور وأشكال محددة الآن، لن نكشفها، لكن نتمنى أن يكون من بينها تنفيذ الأمر السامي بتوحيد منافع ومزايا صناديق التقاعد وفق نظام تقاعد ديوان البلاط السلطاني؛ فالمرحلة ببُعديها الداخلي والخارجي تحتِّم الآن رفع المعنويات الاجتماعية بحقوق تلامس حياة المواطنين اليومية وتحقق تطلعاتهم المستقبلة؟