لا يحدث لي كل يوم


نيران الطرابلسي | تونس


صباح جديد آخر يتدحرج كسلحفاة عرجاء، الشمس لم تبزغ بعد، والسماء قاتمة كأن الليل قرر أن يغتصب النهار ويمتدّ على طوله.. لم يكن "المترو" مكتظا كعادته بالوجوه العابسة والسيقان المرتعشة، ربما لأنه يوم جمعة، يفضل الناس قضاءه في العبادة والصلاة، ويفضل البعض الآخر مغادرة العاصمة وزيارة ذويهم، أطلّ على العالم من باب المقهى العريض وأنا أغالب رغبة شديدة في التقيء، لا أعرف ما الشيء الذي يرفضه جسدي ويرغب في التخلص منه، لم أتناول شيئا منذ يومين، أشرب ما يقارب أربعة فناجين قهوة في اليوم وأدخن نصف علبة سجائر، لعلّه يريد التخلص مني، ربما صرت حملا ثقيلا عليه، أو عليّ لا فرق بيننا.. على الرغم من الفرق الواضح جدا.. لا يبدو على الناس في الخارج أنهم يبالون بالسماء، ولا بالوقت ولا بتاريخ اليوم ولا باسم الشهر، يتحركون في إيقاع سريع.. يقصدون أماكن لا يمكن التنبؤ بها، لكني لا أظنّها ذات أهمية كبرى، أحاول التخلص من ذلك فأنشغل برغبتي في العودة إلى البيت والتمدد على ظهري واختراع القصص. ليس الآن أقول في سري.. يجب أن أذهب إلى العمل هذه قصة لا أستطيع التلاعب بحبكتها.. وهي القصة الوحيدة التي أعيشها بصدق، قد يبدو لي أحيانا أن تلك الفتاة الودودة التي تضغط على أيادي الأطفال بعطف وتبتسم لهم ليست أنا، وأن كل ما أرغب فيه هو إضرام النار في المدرسة والتخلص من هذه المهنة التي أحرقت دماغي وشوهت جسدي، وعلى الرغم من أن المنطق يقول أن لا أحد مجبر على فعل شيء لا يحبه.. وأنه يمكنني في أي وقت أن أترك العمل بلطف.. دون أن أضرم النار فيه، ودون أن أقتل أحد، ودون أن تسيل قطرة دم واحدة، إلا أن الواقع يقول أنه يجب أن أعمل لكي أسدد الفواتير الملقاة تحت باب منزلي، وأن أدفع مقابل النوم تحت سقف بيت لا أعرف إن كان يحميني من البرد أو أحميه من السقوط.. وأن أدفع مقابل تجولي في الشوارع.. فمن دون أكل لا أستطيع التحكم في قدمي، أدفع لجسدي ليظل سليما معافى.. وأدفع لعقلي ليعمل.. وأدفع لخيالي ليتوسع.. وأدفع لأتنفس.. سيمرّ هذا اليوم بطيئا، متأكدة جدا من ذلك، لكنه سيبدو في الغد ذكرى سريعة جدا.. أدس رأسي بين يدي.. وأنا أحاول أن لا أتشتت أكثر.. التشتت يرغم جسدي على الصراخ، لا يجب أن أصرخ هنا، قد يظن الناس أني مجنونة، أفتح الكتاب الذي أحضرته معي، "انقطاعات الموت" لـ"خوزيه ساراماغو"، أقرأ الجملة الأولى، "في اليوم التالي لم يمت أحد"، أغلق الكتاب بقوة، لا أعرف من الذي أعطى هذا الأمر ليدي اليسرى.. ربما عقلي، ربما قلبي، ربما أنا، فلا فرق بيني وبين جسدي على الرغم من الفرق الواضح جدا، أو ربما يدي قررت ان تتمرّد علينا كلّنا.. "لماذا لم يمت أحد في اليوم التالي؟ يبدو الكتاب مشوقا" أردد في سري بينما يدي تعبث بخصلات شعري الذي لم ينشف بعد، وقد مضت ساعات منذ غسله، ترتعش قدمي فيما معدتي تعصر القهوة التي مازلت أحتسيها بقوة، تشتت ذهني مرة أخرى.. أسمع صرخاته وهي تأمر فمي أن ينفتح.. تترك يدي شعري بطريقة عصبية وتمسك رأسي بقوة وكأنها تحاول نزعه من جسدي، لا يمكن أن يكون هو من أعطاها هذا الأمر..
تعاودني الجملة من زاوية أخرى للدماغ:
 "في اليوم التالي لم يمت أحد"، هذا حدث مخالف بالمطلق لأعراف الحياة، لذلك قد أحدث ارتباكا هائلا في جميع زوايا الدماغ والنفس، وترك تأثيرا مسوّغا بكلّ المعايير، لا يوجد في مجلّدات التاريخ الكونيّ الأربعين لخبر واحد، ولو عن حالة واحدة، بأنّ ظاهرة مشابهة قد وقعت ذات مرة وأنّ يوما كاملا قد انقضى، بساعاته الأربع والعشرين العجيبة كلّها، محسوبة بين نهاريّة وليليّة صباحيّة و مسائيّة دون أن تحدث وفاة واحدة بمرض، أو سكتة قاتلة، أو انتحار مكتمل حتّى النهاية، لا شيء من أيّ شيء، مثلما هي كلمة لا شيء.""
 من ركن صغير في المقهى رأيت جسدي يركض نحو الشارع، انحنى قليلا وبصق، تبعته خوفا من فقدانه.. كان يسعل بقوة ويبصق دما فيما الناس يتجمهرون في حلقة كبيرة حول رجل ممدّد في الشارع، لا أعرف إن كان حادث سيارة، أو سكتة قاتلة أو مرض.. لكنّي سمعت أنه لا يتنفس وأن الموت خطفه في غفلة مني.. وأننا سجلنا اليوم حالة وفاة...
 هذا صباح آخر يبدو سيئا جدا لأني شاهدت للتو حالة وفاة وهذا أمر لا يحدث لي كل يوم..

 

تعليق عبر الفيس بوك