الطريق إلى "إسرائيل .. المحتلة"

 

مسعود الحمداني

 

 

.. ولأنَّ للسياسة أبوابها ومداخلها ومخارجها وغوّاصوها وسحرتها ومسحوروها، فليس من السهل الولوج إلى مخابئها، ولا الوصول إلى سواحلها، فهي تتمدد بتمدد المصالح، وتنكمش بانكماش المطامع.. وهي ذات ألوان، ونكهات، وروائح لا تُعد ولا تُحصى، ولذا من الأفضل أن ندعها لمن يُجيد لعبة التلّون والتخفّي في غاباتها، ومخايلها، وننحاز إلى المواطن العربي المغلوب على أمره.

فنحن ـ كعرب ـ نعرف فلسطين وجدانيًا، فهي التي عشنا لها، وعليها، وهي التي كتبنا القصائد لأجلها، وثُرنا لعينيها، وتلاحمنا مع شعبها، وبكينا في ثوراتها، وسعينا لفك كُربة أهلها، وعقدنا المؤتمرات لحلحلة وضعها، ودبجنا الخطب العصماء في أفنية المنابر، وتحت قباب المساجد للتنوير بقضيتها ومكانتها في الروح الإسلامية.

عرفناها قضية مفصلية، وجوهرية، ومصيرية لا جدال فيها، ورفضنا ـ كشعوب ـ بيعها في المزاد السياسي، وتمسكنا بعدالتها، ورفعنا عقائرنا لنجدتها، وهتفنا بحناجرنا لصغارها، ووقفنا إلى جانب كبارها، وشهدنا استشهاد محمد الدرة، وعايشنا اغتيال الشيخ أحمد ياسين، وغضبنا لدك غزة، وحصار الضفة الغربية، واستنكرنا وجود اسم "إسرائيل" على الخارطة، ولعنّا أولئك الذين يسوّقون للتطبيع، ويهرولون لتصفية القضية، وتفريغ المضمون من محتواه، فكنَّا نشعر أننا مسؤولون أمام ضمائرنا عن إبقاء جذوة فلسطين مشتعلة، رغم أنَّ الساسة يرون ما لا نراه، ويفعلون ما لا نعلمه، ويفعلون بالليل ما لا يقولونه في الصباح، ولكننا لم نفرّط بشبر من أحلامنا..

وحين بدأ بعض الساسة والكُتّاب الخليجيين ينسلّون من بين أصابع الظلام ويكتبون عن حتمية السلام، وضرورة التَّقارب مع إسرائيل سخرنا منهم، ووصمناهم بأشد عبارات الاستنكار، غير أنه بدا لنا بعد فترة أنَّ "السلام" قدر لا مفر منه، ومصير لا منجاة منه، وطوق نجاة يرميه لنا الأمريكان والإسرائيليون لإغراقنا، فتغيّرت نبرة المُنتقدين لـ"التطبيع"، وتراجعت حدة العبارات، واستبسل بعض الكتّاب والمحلّلين في الذود عن حياض إسرائيل هذه المرة، وانحسرت موجة العداء للاحتلال، ليحل مكانها لغة تصالحية، وكأنَّ كل ما مضى كان مجرد أضغاث أحلام، وأن ساعة المزاد قد دقت.

 لقد بات واضحًا أنَّ "صفقة القرن" تُمرّر بشكل سلس، ومُبارك، بالتهديد والوعيد تارة، وبالترغيب والوعود تارة أخرى، وغدا التبرير للاحتلال واضحاً، وجليّا، من خلال الخطب الجوفاء، ومن خلال تبنّي القراءة الإسرائيلية للوجود اليهودي في شبه الجزيرة العربية، وحقهم "التاريخيّ" في أرض فلسطين، ولن نستغرب كثيرًا لو قامت بعض الدول العربية بنقل سفاراتها قريبًا للقدس للتدليل على "حسن النوايا"، لكي ينزعوا كل أوراق التفاوض من يد الفلسطينيين، ولكي لا يبقى لدى "المُحتلّين" شيء يتفاوضون عليه، وبذلك يزول هذا الصداع المُزمن من رؤوس العالم الذي امتد قرابة السبعين عامًا..وبعد ذلك يتفرغ العرب للتنمية التي نسوها طيلة أجيال، كانت القضية خلالها شمّاعتهم لمُمارسة الديكتاتورية، وسبباً في عدم اهتمامهم بشعوبهم، ومبررا للفساد، واستنفاد الطاقات، وهراء الاقتصاد، وتبخُّر مدخرات الأمم، وتسرّب مخزونات نفطهم وغازاتهم، وبسبب "القضية" تم تأجيل المشروعات الكبرى للقضاء على الجهل والتخلف والفقر، وأن الأوان قد حان لبناء الدول العربية من جديد!

يجب أن نعترف أننا لا نُجيد كالإسرائيليين لعبة النفس الطويل، ولا نتقن فن التفاوض مثلهم، ولا نعرف كيف نستفيد من لعبة الإعلام، ولا نعلم عن خبايا السياسة غير المؤامرات على بعضنا البعض، وفي ظل هذا الزعيق والنعيق واللهاث نسينا دروس التاريخ، والطرق الوعرة التي تحررت من خلالها الشعوب، وغضضنا البصر عن دول تمَّ احتلالها لمئات السنين، ولكنها قامت كما تقوم العنقاء من رمادها وثارت على المُحتل، وطردته، وحظيت بحريتها بعد عقود من الظلام.. لقد أنهكت العربَ سبعون سنة من الاحتلال، ونسوا أن "دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة".

أخذت إسرائيل كل شيء، ولم يبق للفلسطينيين قشة يتعلقون بها، ولم نعد نعرف هل صفة "المحتلّة" هي اسم فاعل أم اسم مفعول لإسرائيل؟! لذلك لا تستغربوا إذا خرج عليكم ذات يوم مذيع نشرة الأخبار في إحدى الفضائيات العربية ليقول:

"قامت قوات الاحتلال الفلسطيني ببناء مستوطنة على أرض إسرائيل المحتلّة"!

ولله الأمر من قبل ومن بعد.