أتقاسم هزائمي بانكسار

فاتن باكير – سوريا


فجأة لم يعد أبي في البيت .
كان وميضاً خافتاً مثل ضباب صباحي حين استيقظت ذات يوم ولم أجده ...
بدا لي أنه غياب مؤقت وسوف يعود من أجلي.. ربما خرج لشراء سجائر... أو ربما الخبز وسيرجع... لكني انتظرته طوال اليوم ولم يأتي .
لم أعرف مالذي كان يجري بالضبط... ماذا يمكن أن تعرفه بنت في الرابعة! تلعب في وسط الغرفة فاردة ساقيها وتطبطب على دمياتها بسعادة..ثم فجأة يتصارع أمامها شخصان تائهان.... خائفان .. غبيان وعلى الأرجح تائبان عن الحب .
أرفع وجهي نحوهما فأصطدم بوجه أمي وهي تصرخ وتنتحب معاً...ثم يرفع أبي يده على وجهها لترن صفعة صماء في روحي قبل روحها....
أراهما يتدافعان ويتعاركان بالأيدي... وفيما كانت أمي تكيل له سيلاً من الشتائم كان أبي يدفعها نحو الجدار ليرتطم جسدها بتشنج....
كنت ما أزال مسمرةّ في مكاني أراقب خيط الدم الذي بدأ يسيل بين فخذيها..... أشرت لها بأصبعي نحو ساقيها... كانت تتنفس من وراء ظهرها... وكأن رئتيها انقلبتا إلى الخارج.... وبدل أن تصرخ نظرت إليّ بعينين تائهتين قبل أن تهوى على الأرض.
كنت منكمشة مثل نعجة خائفة...أشعر أن اللحظة ستنتهي سريعاً ليسود الهدوء.... وبدل أن تنهض أمي كما هي عادتها عقب كل شجار حملها أبي إلى الخارج وتركني أتقاسم هزائمي بإنكسار.
لم أحاول أن أخاف ....
وبدا لي أني أفتقد ظل أبي ....
لم أكن أعرف ماذا يعني أن تكون أمي في بيت وهو في بيت آخر !!! لم يخبرني أحد أن الحياة بدونه أصعب.. وأكثر وجعاً... كل الذي عرفته آنذاك نظرات الحيرة التي كان يرمقني بها في مركز المراءة وهو يسألني:
(هل أنت سعيدة مع أمك ؟)
( لأ أعرف ... ) ...
كنت أجيبه وأنا أبتسم... وأنا أحزن...وأنا آكل ندمي لاني لم أخبره كل الحقيقة .
كان شعوراً متعباً يدفعني للاعتقاد أن امي قادرة على خلق جحيمها الخاص ببراعة... فهي تبكي في الليل ويثقل صوتها.... لم تمسك يدي إلا لأقطع الطريق....لم تعانقني منذ أن تركت أبي.... كان ثمة حاجز يكبر بيننا دون أن أشعر.....وكانت تتهمني أحياناً بالخيانة لأني أتورط بالسؤال عن أبي .
أبي الآثم في نظرها.... الحبيب بالنسبة لي ....
القريب والجميل.....
أقتقدته وأنا أكبر....وكأن الحياة تعاقبني على حبي له الرجل الوحيد الذي لم أكرهه أبداً.
هناك مساحة من الحب تكون عائقاً أو دافعاً للانهزام كأن نحب شخصاً لا يرانا ... مثل أن أدور حول أمي كل اليوم ولا تحاول أن تراني ...استدرجها لنتكلم... أنظر إلى عينيها مباشرة .. أحثها على البوح بكل مايعتمر في قلبها ...أدفع بألعابي نحوها ... لكنها تكتفي بتأملي وأنا أثرثر بلا انقطاع عن أسماء دمياتي التي أغّيرها كل يومين.....
لم أطلق اسم أمي على أي من دمياتي ، كان ذلك بمثابة عقاب لها .. لم أكن أعي وانا بذلك العمر الصغير أنني أتتقم لنفسي...كانت تتركني أثرثر بلا طائل ..

تعليق عبر الفيس بوك