انتبه.. بين يديك لآلئ مكنونة

 

منى البلوشية

"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" (الإسراء: 23،24).

في هذه الآية الكريمة، أمر الله سبحانه وتعالى عباده بعبادته وحده وتوحيده وتقديسه عن كل النقائص، وعدم الإشراك بعبادته سواه من البشر، ثم قَرَن عبادته وتمام طاعته ببِر الوالدين، وجعل بِر الوالدين مقروناً بذلك؛ مما يدل على عِظم بِر الوالدين لمن أراد أن يبلغ ذروة طاعة الله، والوصول إلى أعلى درجات رضاه.

إنه عملٌ خفيٌ لا يقوم به إلا من يشعر بهما عمل يضعك تبذل قُصارى جهدك من أجل إسعادهما، من أجل فرحة تراها في أعينهما، فكم هي السعادة التي تملأهما بعد عناء تربيتك ليروا نتيجة وثمرة تلك التربية، كيف هي تنمو وتثمر، وكيف سيكون حصادها.

بِر الوالدين فعل وليس كلاما يُقال باللسان، هو كاليقين عندما تدعو الله وترجوه وأنت موقن بالإجابة، هو ليس فقط عمل لليوم، وإنما لأعوامٍ، وأثٍر باقٍ في النفوس، وبذل الجهد فيه "ليس ليقال بأن هذا الابن بار بوالديه"، فهو كالصدقة بالخفاء، ولا يقوم بهذا الفعل إلا من وفقه الله تعالى في طاعته ورضاه.

فمن بِر الوالدين أن تشعر بألمهما قبل أن ينطقا به، أن تشعر بالكلمة قبل أن ينطقا بها، إنه البر الذي لا يعلم مصدره سواك، ولا تستطيع أن توقفه، فاغتنم تلك الفرصة، فرصة وجودهما.

بِر الوالدين ليس "اليوم أنا سألت عنهما، وجلست معهما"، هو أوقات أتحدث معهما مهما كانت انشغالاتنا، ليس "اليوم أنا قبَّلت قدمهما ويديهما ورأسهما بمعنى أنني بررت بهما"، إنَّه إن ناداك أحدهما من بين إخوتك فقد اختارك من بينهم لأن تكون بالقرب منه في تلك اللحظة، اختارك لتلبي له طلبا يحتاجه منك، اختارك لقربك من قلبه ولربما ليشعر بقربك منه.

بِر الوالدين حياة لمن لا حياة له، حياة لمن هم يتمنونها بأن يكونوا بالقرب منهم، ولمن لم يشبعوا من حنانهم ووجودهم، "إنهما كالشجرة ممتدّة الجذور"، إنه العطاء الذي لا حدود له، والذي لا ينفد مهما حدث، ورغم كل التقلبات إنه الحب الذي لا يَفنى.

إنَّهما مثالٌ للحكمة والصبر، فمن أمي أخذتُ الصبر، ومن أبي أخذت الحكمة، فهما كالضالة التي نبحث عنهما عندما نتوه بدونهما، هما الملجأ والأمان بعد الله تعالى.

إنه ليس سباقا ليوم وينتهي، وإنما كيف أرضيهم لأرضي الله تعالى، كيف أُفرحمهما ولو بالشيء القليل الذي يرونه كثيرا.

بر الوالدين رسالة من الله تعالى لأبنائكم فيما بعد لأنها سترد وبنفس المعاملة لكم، فلا أحد يشعر به إلا من فقد والديه ويتمنى أن يعود الزمان للوراء ليملأهما حُبًّا وعطفا وعطاء، ويأخذ من حنانهما الذي لم يشعر به، وليبرهما خير البِر، فلا تدع الشعور يأتيك متأخرا.

فاستغل وجودهما قبل رحيلهما، كُن لهما كل شيء، فإنهما بذلوا من أجل إسعادك الكثير "فإنك لا تعلم كيف كانت لحظات تلك الصرخات عند ولادتك من رَحم أمك، وكيف كانت معاناة والدك من أجل كسب الرزق لك، وشاركهما أجمل اللحظات؛ فالرحيل لا يستأذن أحدا، إإنه يأتي بغتة دون سابق إنذار. فكم من الأبناء وُلِدوا ولم يروا والديهم، أو لم يرَ أحدهم والده أو والدته، ويتمنى أن يراه.

فطفل يبكي في مدرسته ووسط أقرانه ويسأله أحدهما وبراءة الطفولة ما بك تبكي، قال: إن أمي وأبي قد تُوفيا، هنا اقشعرَّ بدني، فليت لهذا الطفل أحد والديه ليشعر بأمان الحياة معه، مُؤلم أن تشعر بمعاناة غيرك، ومؤلم أن لا تشعر به.

وهنا طفل آخر لم يتعدَّ عمره خمسة أعوام، جلس تحت قدميْ أمه وهي تود منه أن يتحرك، ويرد عليها قائلة: إنني أود أن أدخل الجنة من تحت قدميك يا أمي.. كيف بشعور تلك الأم بطفلها الذي لا يفقه شيئا من أمور الدين الدنيا بعد، إنها الحياة واللؤلؤ المكنون الذي أصبحنا نحتاج لحذر في الحفاظ عليها، قبل أن يُوجعنا الرحيل. فكم هي القصص الكثيرة التي تحويها جعبتي، وكم من يرويها بين يديّ، وكم من اشتياق لأرواح رحلت ولا يعلم بوجعها إلا الله.

فعذرا إن لامست كلماتي من فقد والديه أو أحدهما، فاللهم اغفر لكل أب وأم فارقا الحياة، واربط على قلوب أبنائهم بالرأفة والرحمة.

تعليق عبر الفيس بوك