المدرسة العنترية في الإدارة !!

د. سعيد الحارثي

باحث وكاتب

تئنُ بعض المديريات والإدارات الداخلية في مؤسساتنا الحكومية تحت وطأة عجرفة من النوع المُقرف جداً. تطال المراجعين فوق ما هي جاثمة على صدور الموظفين. إن قُدِّرَ لك أن تخوض تجربة مُقابلة مع أحد مديري هذا النوع من الإدارات، تشعر وكأنك تخوض حرباً عنترية شعواء. وفوق ما يلقاك به من تجهّم يوحي بانزعاجه منك، فإنَّ قلبك ينقبض منه عندما تشعر بقسوة تعامله معك ولسان حاله يرسل إليك بلا هوادة مقولة عنترة العبسي: "فويل لكسرى إن حللت بأرضه ** وويل لجيش الفرس حين أعجعج" !!. ، ونقولها بالعامية "طيب ليش؟!!"

جاء في خطاب صاحب الجلالة أمام كبار رجالات الدولة في 1978م، والذي بلغ صغار رجالات الدولة كما بلغ المواطن العادي، ما نصه: "وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنَّهم جميعاً خدمٌ لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص، وأن يتجردوا من جميع الأنانيات".

 

إنِّه توجيه واضح، ورسالة يُراد لها أن تتحقق. فما بال أقوام يجترؤون على أبناء جلدتهم فينكرون كرامتهم ويعصفون بحاجاتهم ويتمننون بخدمتهم ويجرحون كبرياءهم وقدرهم كباراً كانوا أم صغارا، وكأن أولئك يُديرون مؤسساتهم الخاصة. فمتى سننتبه إلى أنَّ الإدارات والدوائر الحكومية هي بناء مؤسسي وُجِدَ لتلبية حاجات المُجتمع ونُظِّمَ من قبل الدولة في سياقه الخدمي المدني لتقديم الخدمات لمواطنيها، بل وحتى لقاطنيها.

هذا الأسلوب الذي يُمارسه عدد من المتنطّعين، والذي أصبح ظاهرة حقيقية، يقود بطبيعة الحال إلى التسليم بأننا أمام أزمة أخلاق بالدرجة الأولى. ويبدو أنّ الفهم الحقيقي لمصطلح المؤسسة العامة قد استعصى على بعض المستخدَمين تبَنِّيه في غياب مبدأ العقاب والاستفراد بمبدأ الثواب الذي يذّكي جذوته رؤساؤهم ويقدمونه لهم على أطباق من ذهب، حتى غاب الضمير وغاب معه الحس الوطني. ولا تحدثني عن المثل العماني القائل "يوم تسلم ناقتي، ما عليّ من رفاقتي". إن الحالة التي نحن بصددها، لا يُمكن بأي شكل النأي بها عن فرضية "الجهل بالحقوق" ، فسوء التدبير الذي يقع فيه المراجع للمؤسسة الخدمية وجهله بما له، والتسليم بأنَّه صاحب حاجة وبأن المسؤول الذي أمامه يملك، بالمطلق، حق قبول أو رفض طلبه دون مسوّغات، هو من أعطى لمثل أولئك المتنفذين المساحة الكافية لممارسة تلك العنترية.

 

لا شك أنّ التنظيم الجيِّد الذي أحدثته بعض الوزارات في هياكلها من خلال إنشاء دوائر خدمات المُراجعين كان بمثابة النافذة الأنيقة! التي يقصدها المراجعون للوصول للخدمات التي تقدمها الحكومة. إلا أننا لا نزال في كثير من الأحيان وعلى مستوى أقل في بعض الولايات والقرى نجد أنَّ الاستفادة من خدمات بعض المؤسسات قد تتطلب احتكاكاً مباشراً مع رؤسائها، ونجد بينهم من هم على تلك الشاكلة. ولا تزال بعض دوائر وأقسام خدمة المراجعين تعجّ بمن ينكّلون بالمواطن تشدداً وتطاولاً وتعطيلاً، وفي أضعف الإيمان تأخيراً في إنجاز المعاملات والتسويف من خلال تكرار طلب المُراجعة على أتفه الأسباب.

أن تكون مضطراً إلى تقديم بطاقة أعمالك عند أخذ الإذن لمُقابلة أحد المسؤولين لإنجاز "معاملة خاصة" في مؤسسته، فهذا يعني بالضرورة أنَّ هناك ازدواجية في النظرة إلى المُراجع صاحب الحاجة. يؤمن بهذه الإزدواجية ويعمل على ترسيخها منتسبو المدرسة العنترية في الإدارة. ومن منطلق الأمانة وإنصاف من يستحقون الإنصاف، فإنَّ القول الأكيد هو أن ممارسة العنترة في الإدارة ليس بالضرورة دأب من هم على مستوى أعلى في المؤسسة، بل غالباً ما نجد تواضعاً يشار إليه بالبنان في شخصيات حكومية كبيرة وبارزة، حتى ليُرى على هيئتهم، وفي حديثهم، وفي مُقابلتهم للمواطنين، هالة من الوقار والتأدب والتواضع. ونجد بالمُقابل من هم أدنى منهم بكثير في المستوى الوظيفي، لا يكترثون لحقيقة كونهم مستخدَمين، ولا يديرون بالاً لأخلاقيات المهنة ومتطلبات تقديم الخدمة.

ولإطفاء جذوة عنترة وأبي زيد!!، تعتمد المؤسسات الربحية الخاصة على نظم متطورة في تحسين العلاقة مع الجمهور، وهي تعد في وقتنا الحاضر من أبجديات الإدارة الحديثة في القطاع الخاص. ذلك ما يطلق عليه "الميثاق الأخلاقي للمهنة"، والذي يفرض على الجميع الالتزام به، وتقديم قدر من المسؤولية تجاه متطلبات ترسيخه كثقافة مهنية، حيث هو بمثابة مبادئ أخلاقية يقوم عليها نظام العمل، ويُعدّ تطبيقاً سلوكياً بالدرجة الأولى، يضع حدوداً واضحة تُعين على تحقيق الجودة، وتحافظ على سلامة الإجراءات والعمليات، وتحفظ ماء وجه المفيد والمستفيد. والقول الحق بأن سماء عُمان يجب أن تبقى صحواً أو أن تمطر صيباً، فأدفعوا عنَّا عنتريتكم يا من وليتم على أمر مصالحنا، و"لا تـشعلوا الـحرب إلا فـي مواقدها ** حـيث الـجهاد عـلى الباغين موتان"؛ كما قال البهلاني. واعلموا أن لكم في دينكم وحضارتكم ما يُغنيكم عن الامتثال للمواثيق الأخلاقية المستحدثه في وثائق مؤسساتكم، ولنا ولكم في أولي الأمرِ قدوة حسنة، فما قامت عُمان ولا نهضت إلا بمن سبقتهم أخلاقهم إلى قلوب عامّتهم. والله المستعان.

sokoon05@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك