ثمن حرية الصحافة

مدرين المكتومية

عندما تكون هناك فرصة حقيقية للتعرف على أوجه جديدة تلامس جوانبك وتخصص عملك، فالحماس يدفعك لتحاول الاستفادة بشكل كبير من تلك التجربة، خاصة إذا ما كانت لمؤسسات عريقة لها مكانتها بين نظيراتها من المؤسسات الأخريات في المجال الذي تمتهنه.

ولأنني ما زلت مغرمة بتجربة حديثة فسأخبركم عن تفاصيلها.

 التجربة كانت في لندن للتعرف على العمل الاعلامي والصحفي وكانت ثرية في أكثر من مجال، فقد عرفتني الزيارة عن قرب على آلية جديدة للعمل الذي اتشرف بالفعل بممارسته منذ أكثر من 8 سنوات، لكن مع ذلك فقد كان من الممتع التعرف عليه بنفس شغف الأطفال عند التعرف على شيء جديد.

تعرفت على الصحافة التي تترجم الهدف والمعني الذي انطلقت من أجله وكيف تعبر بالفعل عن آراء الناس وتكون صوتهم وأيضا تكون الصوت الذي ينقل إليهم كل ما يمكن أن يهمهم بالطريقة التي تناسبهم، فالجمهور هو الأول وهو الأخير هو الهدف وهو المخدوم.

وطوال التجربة كان يراودني التساؤل عن الآلية التي استطاعت بها الصحافة الإنجليزية التي تعرفت عليها وهي "الجارديان والبي بي سي" أن تفعل ذلك وتحافظ على وضع الجمهور في المرتبة الأولى؟! والإجابة كانت في نهاية رحلتي وهي أن الناس يريدون ذلك، فالناس هم من يموّلون الصحف هم أرباب عمل الصحف وهم من يملكون رأس المال الفعلي الذي يسدد دوريا عبر الاشتراك في الوسيلة الإعلامية، لأنهم يعلمون أن كل جنيه استرليني يدفعونه في الاشتراك سيترجم في المقابل لحمل صوتهم إلى الحكومة والتعبير عنهم وفي نفس الوقت ضمان وصولهم إلى معلومات حقيقية ومحايدة، فالاعلام لا يعتمد على الدعم الحكومي أو غيره حتى (البي بي سي) التي تحصل على التمويل من الخزانة العامة إلا أنها والناس يعرفون أن هذه الأموال ستذهب إلي الوسيلة الإعلامية من أموال ضرائبهم ويوافقون على ذلك، فحرية الاعلام هي بالفعل مقترنة اقتراناً كاملاً بوقوف الناس إلى جانبها وأن  يساندونها لتكون بالفعل صوتهم.

ولم أجد أي استقواء من وسائل الإعلام المستقلة تلك أو متاجرة بأنهم صوت الناس بل على العكس كان التوازن والموضوعية الكاملة هي أهم شروط المنتج الإعلامي مقروء أو مسموع أو مرئي، فهم يقدمون المهنية مقرونة بحرية الإعلام، الذي لا يعني السباب والمساس والتجريح وعرض صور أو أخبار مشكوك في صحتها ، وإنما ما رأيته هو منتهى الموضوعية في طرح أية مشكلة تخص وتلامس الناس، بكل ما يتطلبه ذلك من قواعد مهنية صارمة في هذا المجال فلا يمكن اتهام احد بدون مستند او وثيقة ودليل واقعي، ويحكمهم في ذلك قوانين واضحة وصارمة، كما تكفل لهم نفس القوانين حرية التعبير وكفالة حرية الكشف عن الفساد وفي المقابل كفالة حقوق الناس في عدم إهانتهم وسبهم وقذفهم.

ولا يمكن ان نقول ان الاعلام في الخارج لا يعاني من أي مشاكل بل على العكس هناك الكثير من الصحف ووسائل الاعلام اضطرت للتوقف، ولكن هناك وسائل إعلام استطاعت ان تتكيّف مع الوضع الجديد والمتغيرات التي يفرضها العالم، من خلال الاجتهاد والمثابرة ومواكبة التطورات وفرض انفسهم على المجتمع من خلال ثقة الناس بهم وبمصداقية ما يتم تداوله ونشره عبر مواقعهم المختلفة، وذلك تماشيا مع كل ما يحدث من حولهم في ظل العصر الرقمي ولكن دون التنازل عن مبادئهم وقيمهم التي فرضوها على انفسهم، وعلى سبيل المثال فإن BBC) وصحيفة التلجراف(، قد استحدثت دوائر جديدة معنية بالمواقع الالكترونية وأيضا بالتحقق من مصداقية الأخبار بالإضافة إلى إدخال تقنيات حديثة في مجال الصوت والصورة والفيديوهات ليستطيعوا إنجاز أي مقطع في زمن معين مواكب للحدث دون تأخر على المتابع والمستمع، وليس هذا فقط، فهناك وسائل قياس حقيقية لعدد الزوار وعدد المتابعين ومدى زيادتهم والتعرف على توجهاتهم والفئات العمرية، وذلك يتيح لهم الفرصة في خلق برامج معينة تتناسب مع الاهتمامات الخاصة بالمتابعين لتظل دائما الأقرب وذات الثقة الأولى من المشاهد والمستمع والقارئ.