موازنة 2019.. وحجم التطلعات الاجتماعية

 

د. عبدالله باحجاج

إذا كانت السياسات المالية وإجراءاتها المشددة التي اتخذتها الحكومة، سببها الأزمة النفطية التي اندلعت منذ منتصف عام 2014، فإنّ مرحلتنا الاقتصادية الراهنة وآفاقها المستقبلية القريبة الأجل- وليست البعيدة الأجل- تجعلنا نقول صراحة، إنّ الحجج المالية التي تقف وراء استمرار تشديد الخناق الاجتماعي بما فيها وقف ترقيات موظفي الدولة؛ قد تلاشت ولم تعد حججا يمكن أن تكون مقبولة من المجتمع.

وتصبح المسألة الآن محصورة من منظور مجتمعي خالص، في ثلاثة تساؤلات مُلحة هي: متى سيتم الإفراج عن ترقيات موظفي الدولة المتأخرة جدًا على وجه الخصوص؟ وهل سيتم إعادة النظر في السياسات المالية والإجراءات المشددة على وجه العموم؟ وماذا ينبغي أن يكون مسارنا الوطني المستقبلي الملح بعد الآن؟ ليست الأسعار النفطية وحدها هي التي تفرض طرح هذا التساؤلات، وإنّما لما يتقاطع معها من مبشرات اقتصادية كبرى، منها متزامنة مع هذا الارتفاع، ومنها ستحدث قريبا جدا، مثال الأولى، وصول الفائض في الميزان التجاري للبلاد إلى 1.7 مليار ريال عماني، وكذلك ارتفاع صادرات البلاد بنسبة 24.2%، ومثال الثانية، مساهمة حقل خزان في ميزانية الدولة بصورة أوسع منذ بداية العام المقبل 2019، وهذا الحقل يعد الأكبر من نوعه في السلطنة، والبعض يقول في المنطقة، وهذا سيكون إضافة نوعية وكمية لقوة السلطنة الاقتصادية؛ نوعية من منظور أنه سيسهم في تنويع مصادر الدخل في البلاد، وكمية؛ كون هذا الحقل الضخم للغاز سيرفع من حجم إيرادات الدولة وبصورة أكبر مما كان يتوقعه واضعو موازنتنا السنوية للعام 2018، وكذلك لما يخطط له الآن لموازنة 2019 التي أحيلت مؤخرا لمجلس الوزراء من قبل مجلس الشؤون المالية وموارد الطاقة. فهل سيتم تجاهل هذه التطورات الكبرى، ويستمرون في سياسة الخناق الاجتماعي أم سنشهد انفراجة ملموسة نحو حماية المجتمع من تداعيات تلكم السياسات والإجراءات؟

قد يُغرقوننا في جدلية تغطية العجز، وفي حسابات الالتزام بمخططات وسياسات مواجهة الأزمة النفطية، لدواعي الاستدامة المالية بعيدًا عن تقلبات الأسعار النفطية، وهذه قضايا يكتنفها الرأي والرأي الآخر. فمن ناحية العجز فقد تم خفضه إلى النصف منذ الخمسة الأشهر الأولى من العام الحالي، بسبب زيادة الضرائب وارتفاع أسعار النفط، كما أنه ليس هناك دولة ليس لديها عجز سواء فعلي أو وهمي، لكن ينبغي ألا يكون أبدا على حساب الفاتورة الاجتماعية المستحقة. أمّا الالتزام بصناعة الاستدامة المالية للموازنة فهذه مسألة متفق عليها، لكن ليس عن طريق الخناق الاجتماعي، وإنما عن طريق التنويع الاقتصادي، فارتفاع الأسعار لا ينبغي أن يصرفنا عن قضية التنويع أبدا، وأن يستمر في الوقت نفسه تحميل المجتمع تبعات الاستدامة المالية من خلال سياسات وإجراءات قاسية اتخذت إبّان اندلاع الأزمة النفطية.

من هنا يمكن القول إنّ ارتفاع الأسعار النفطية والمساهمة الكبيرة لقطاع الغاز في إيرادات الدولة يحتمان إعادة النظر في هذه السياسات والإجراءات، على الأقل تخفيفًا من حدية الخناق الاجتماعي، فكلنا مع سياسة التنويع، وإحلال الخمسة قطاعات الاقتصادية محل النفط، وهذه الاستراتيجية ينبغي أن يكون حرصنا الآن على تطبيقها بصورة أكبر من السابق، لأننا في مرحلة الاطمئنان على إيرادات الدولة سواء من حيث ارتفاع الأسعار أو من حيث اكتشافات حقول للغاز طموحة جدا، وحقلي خزان ومبروك ليسا سوى نموذجين من عدة نماذج معلنة وغير معلنة، تضع بلادنا على قمة الأمان الاقتصادي، وتحتم في المقابل مراجعة منظومة السياسات والإجراءات التنفيذية للرؤية 2040، فهى منظومة تحكم الخناق على المجتمع، وليس هناك مبرر في استمراريتها المتشددة.

أمّا نظرية "انطلاق القطار دون العودة للوراء"، وهي مقولة قالها مسؤول نفطي بارز في رده على مطالبات اجتماعية بعقلنة الارتفاع المتواصل لأسعار الوقود منذ رفع الدعم عنه، فقد آن الأوان لها أن يُعاد النظر فيها فورا، لأنه قطار يستهدف مرتبات المواطنين المحدودة، وسيتركهم في محطات متخلفة عنه اجتماعيا، فانطلاقته بعد ارتفاعات متواصلة لسعر النفط العماني، ستكون هائلة، وذات تداعيات اجتماعية خطيرة، لا يتوقع قبولها اجتماعيا. من هنا ندعو إلى إعادة النظر في كل السياسات والإجراءات التي اتخذت إبّان أزمة 2014 من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين عندما كانت أسعار النفط عند 28 دولارًا للبرميل مع مخاوف هبوطها إلى 20 دولارا، وهذا لا يعني وقف القطار، بل ينبغي بقاؤه واستمراريته بنفس السرعة، لكن بعد تغيير حمولته، من الرسوم والضرائب الثقيلة والشاملة إلى حمل القطاعات الخمس البديلة للنفط بنفس السرعة بل وزيادتها، دون الالتفاف لارتفاع الأسعار النفطية، وزيادة إيرادات الغاز الجديدة، فالرهان على انطلاق قطار تنويع مصادر الدخل هو شغلنا الشاغل الآن، وينبغي أن تحدث من خلاله اختراقات سنوية كبيرة، فقطاعات مثل السياحة والصناعة والزراعة والأسماك واللوجستيات.. هي قطاعات شبه جاهزة وبعضها جاهز للإحلال خلال مدد زمنية متوسطة الأجل إذا ما توفرت لها إرادة قوية شبيهة بإرادة فرض الرسوم والضرائب على المجتمع.

والمتأمل فيما أحدثته تلكم السياسات والإجراءات من تداعيات اجتماعية حتى الآن سيخرج ما خرجنا به من أن مصلحة البلاد الاجتماعية تقتضي في حاضرها ومستقبلها سحب مجموعة سياسات مالية، لأنّها مؤلمة اجتماعيا، وتكشف مجتمعنا وبالذات فئة الشباب لمجموعة تحديات كبرى، بعضها طبيعة بحكم الضائقة المالية، وبعضها ستكون من صناعة المتربصين ببلادنا، من الداخل والخارج، استغلال لهذه الضائقة، وحالة الفراغ المجنونة عند الشباب، فسبحها يعني تحصين المجتمع من أية اختراقات والعكس صحيح، فموظفو الدولة والباحثون عن عمل الآن في حالة ترقب عالية لسماع أنباء سارة وعاجلة عن ترقياتهم وعن فرص عمل جديدة، وعن وقف الارتفاع المتواصل لأسعار الوقود، كأن يتم تثبت الأسعار عند مستويات محددة، ووقف العمل بضريبة القيمة المضافة المثيرة للجدل، مقابل توسيع قائمة الضريبة الانتقائية أو تقليص قائمة السلع والخدمات التي ستطالها ضريبة القيمة المضافة إلى النصف "حاليا قد تصل إلى المئة"، وكذلك التخفيف من رسوم البلديات... إلخ فهل ستكون الموازنة الجديدة في مستوى هذه الطموحات الاجتماعية؟

وفي المقابل، نقترح تشكيل لجنة جديدة خاصة بملف التنويع الاقتصادي، من أطر متخصصة ومهنية وفكرية مستقلة يناط بها مسؤولية الرقابة على تنفيذ مخططات التنويع، ورفع نسب مساهمتها بصورة ملحوظة، ومرتبطة بأعلى مؤسسة في البلاد، وترفع تقاريرها الدورية وملاحظاتها الفورية لها، ولديها كامل الصلاحيات، لأنّ التحدي الأكبر الآن، يكمن في سياسة تنويع بنية اقتصادنا الوطني مع الحفاظ على قوة المجتمع وتعزيزها، وهذه معادلة التحدي والمواجهة للمرحلة المقبلة، وشعارها في الوقت نفسه، ومعها ينبغي أن تتغير الكثير من السياسات مع الاحتفاظ بالاستراتيجيات خاصة وأنّ الظروف المالية الاقتصادية الراهنة والمقبلة مواتية ومبشرة بالخير، فهل ستكون موازنة 2019 معبرة عن حجم هذه التطلعات أم ستبنى- أي الميزانية- وكأنّ بلادنا لم تغادر سعر 28 دولارًا، وكأن حقل خزان لم يضف لخزينة الدولة إيرادات ضخمة؟ وللموضوع تكملة إن شاء الله.