عمارة إبراهيم | شاعر مصري

بني الإيقاع في الشعر العربي علي متحرك وساكن في حروف الكلام،ثم جملته المفيدة- أي ذات المعني- وعندما يتم بناء الكلام حسب تطور الفعل وحركته الدرامية، أوالغنائية مثلا، تتفوق إيقاعات اللغة حسب بنائها الحالي، وترتيب أحوال أفعالها الدالة.
وأيضا تكون خبرة الكاتب مانحة للإيقاع صفاء ومودة بين المتلقي والنص،لو امتلك خبراته الواسعة من تمكن في اتساع قاموسه المعجمي،واللغوي، وثقافة تتبناها أحوال الفعل تأخذ من التراث ما يعن لها حسب احتياجه لوفرة مساحة الجمال في النص الأدبي، مثلما تأخذ من النصوص المجاورة ما يدعم هذا الإيقاع حسب أحوال الأفعال المتواترة داخل النص.
وعندما كتب قدماء العرب الشعر قبل وجود الخليل بن أحمد الفراهيدي،كانوا يرتبون إيقاعه علي وقع حركية رقص الخيل، أو علي الضرب علي الآلات النحاسية أو ما شابه،حيث تتعانق هذه الإيقاعات وتتوافق مع إيقاعات اللغة مع صفاء حال الشاعر وهو يرتجل الشعر أو يكتبه،ليتوافق ساكن الحرف ومتحركه مع ساكن ومتحرك ترتيب أحوال الشاعر في أفعاله المتسقة مع إيقاع اللغة في حركية مشهده الطالع في إيقاع ما يرتجل أو مايكتب، وقد قرأنا الكثير من هذه الشعرية المتوهجة وقد استفدنا كثيرا منها.
ورغم توهج القصيدة العربية في العصر العباسي وارتقاء تطور بنائها علي إيقاع الوزن العروضي ليمثل الركن الأهم في تطور جماليات القصيدة وقتها،ولا شيء غير ذلك غير أن القليل من الشعراء وقتها وقد تفوقت قصيدتهم بسبب انسجام إيقاع الحال الذي لم يخرج سوي من حدود ضيقة مثل" المدح والذم والحب وإثبات أنساب القبائل وعراقتها وأمجاد النصر في حروبهم....إلخ "،مع إيقاع الخليل،لأن هؤلاء الشعراء كانوا يحفظون الشعر بإيقاع الفراهيدي حفظا متعمقا بجوهر الوزن حتي بات الإيقاع وقت الكتابة متخمرا في مخازن العقل ومتفاعلا مع مشحون الأفعال المتحركة داخل بنية البيت الشعري ليمثل جوهر الأداء، وقد حفظوا إيقاعه بحفظ عدد الأبيات الشعرية وكثرتها عندهم حتي امتلكوا خبراتهم الواسعة في ترتيب أوزان البحر العروضي مع احوال الكتابة من خلال معايشة الايقاع الخليلي لأحوال الكتابة والارتجال.

الدرس الأكاديمي وتطور نظم الشعر:
توقف توهج الشعر العربي بعد الحقبتين الأموية والعباسية،بتوقف تطوير بنيته التي رسمت عناقيد كرمته من مدارسه الفائرة وقتها،بسبب انتشار الإسلام واطلاع الشعراء علي الكتابة الأوربية وتقليدها والاستفادة من تنظيراتهم  ليقف شامخا ما بدا منه،حيث توافقت بنيته في مساريها، حيث يرسم الحال الذي يتبناه الشاعر جوهر جمالياته ليتناغم مع إيقاع الخليل الذي حفظه وتعايش مع حاله بحسب ضرورات معايشة الموضوع وقت الكتابة،مع الحفاظ علي شكله التقليدي الكلاسيكي المستجد،لكن دون النظر إلي ما وصلت إليه كتابة الشعرالعالمي من تطور سبقنا عشرات السنين.
كانت الفترة التي اضمحل فيها الشعر العربي ولم تبرز له الجوانب التي تعكس مظاهره السياسية والإجتماعية، وتعيد له عراقته المهمة في تاريخ الحياة العربية،بعدما توقفت مظاهر التطور بسبب عدم وجود مدارسه التي تضيف للنص الشعري جديدا،وبسبب انغلاق الحياة السياسية والإجتماعية وقتها،حيث كان العصر الفاطمي من أوهن العصور التي أثرت في مسيرته حتي جاءت حملة نابليون بونابرت وتعايشت الثقافة المصرية مع الفرنسية والأوربية وعاد رونق الشعر في تطور حركته وظهرت مدرسة الكلاسيكين الجدد لترتقي الوجدان العربي وتستمر في مسيرتها،مع غيرها من المدارس،لكنها لم ترتق مستويات وتطور الكتابات العالمية،والسبب أن مدارس الدرس الأدبي والنقدي ،والدرس الأكاديمي، انشغلوا بالوقوف حول تقليدية الكتابة الشعرية أو التطور الكلاسيكي المستجد وبتصنيف الشعراء وجودتهم علي حساب التطوير الذي سبقنا بمراحل زمنية كبيرة علي مستوي الشعر العالمي وكان للقصيدة العربية انبعاثها التقليدي علي مساحات أرضية الشكل الذي شيدته علي حساب تطورها الحالي حسب تطور مكانه وزمانه الذي كان يتوجب  وقد ارتكن عند الغرب علي أحوال تطور الأفعال المتدفقة في حركية تطور الزمن ومكانه،الذي برز مع التطور الإجتماعي والإقتصادي والسياسي.
واكتفت مدارسنا الأكاديمية بتدريس النحو والصرف وعلوم اللغة والأسلوبية الواقفة عند حدود تجمدت وباتت محطاتها واقفة عند من تألقت كتاباتهم الشعرية مثل امرؤ القيس ومن بعده المتنبي،وغيره من العصرين الأموي والعباسي،ثم شكري وشوقي وغيرهما قبل نهاية القرن19،ثم بدأت القصيدة في ترتيب أحوالها بعد مطالعة ورصد تطوراتها العالمية ليظهرالشعر الحر من خلال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وحجازي وغيرهم ليتخلي الشعر العربي عن صرامة إيقاع الفراهيدي،وينطلق إيقاعه حسب الدفقة الحالية مع الاحتفاظ بثابت تفعيلة البحر الشعري الواحد،وإن زادت بعد ذلك إلي أكثر من تفعيلة لأكثر من بحر في كتابات شعراء جيل السبعينات،والثمانينات.

قصيدة النثر والإيقاع المستجد:
ثم تجيء القصيدة الجديدة وهي التطور الطبيعي لمستجد الشعر العربي وقد تأخر عن الركب العالمي عقودا واسعة ولم ينتبه الدرس النقدي والأكاديمي بسبب خروجه عن قضبان هذا الحراك لأسباب أخلاقية وأخري لا تلتزم بحاجة الشعر العربي لهذا التطور المهم -حسب مفهومهم -في حياة الشعوب العربية وأخري بسبب عدم وجود الغالبية من  الذين يقومون علي الأسس العلمية التي يجب أن تتوافر في الحرم الأكاديمي بعد إزاحة من يحاول تحقيق النقد العلمي المتطور بتطور القصيدة العالمية داخل النقد الرسمي أو الأكاديمي،  أو ابعاد الباحث الحقيقي عن الوجود في حرم الدرس الجامعي والأكاديمي واكتفوا بوجود من لا يستحق حتي نيل شرف التدريس في المدارس الإبتدائية والإعدادية ،خاصة بعد انتشار التقنيات الإلكترونية وقد استفادت منها كافة الشعوب عدا الشعوب العربية التي رمت عقولها للمناهج السلفية دون النظر إلي ما تسفر عنه تطورات "الميديا "في سياقاتها الشيطانيةالتي ترامت واذدهرت في عقول الشباب العربي من دون ضابط أو رابط لتنتشر الفوضي في سياقات متعددة منها كتابة الشعر النثري الذي لا يرتكن علي شيء جمالي غير التعبيرات الجسدية في سياقات الكلام الجنسي الذي تعرت به أجساد أمة.
 ليتباري مع ما يسمي بنظم قصيدة "الخليل" التي لاقت شاهدها في إيقاع حسابي ينظم ترانيم كلام خرج من قاموس تجاوزناه بعشرات الأعوام،لا يستند علي أحوال الكتابة الحقيقية في تطورها الزمني والمكاني والفعلي. تلقفته بعض منابر الدرس الأكاديمي ليتباروا به علي حلبة "الوهم " ،في مسميات لمدارس شعر الوهم ووهم الشعر.
غير أن أصحاب المواهب الحقيقية،وهم من ينتمون إلي قافلة الشعر العربي الذي يحرض علي التوغل في جدران أحوال وضرورات الأمة وأيضا أحوال الذات الفاعلة مع قضاياها الشخصية والعامة،وقد تخرجوا من مدارس الشعر العربي من لحظة الوعي البشري بأحوال الكتابة حتي ارتقوا منابره في كل اشكاله المتعارفة،دون التحفظ علي شكل دون الآخر وكذا رقي وجمال أفعاله الدالة بلغة اذدهرت في عصوره المختلفة من قديمه وحديثه،توافقت مع المستجدات العربية والعالمية.
لا يزالون في حراكهم الفاعل بعيدا عن ضجيج الجهل والوهم،وبعيدا عن وصمة عارالدرس النقدي والأكاديمي الذي بات في أوهن حياته. ولا تزال القصيدة العربية عند الشعراء المجددين تزدهر  وتتجدد من دون التحليق في فضاءاتنا التي ظهر عليها الضباب والغبار والسطوة من مصانع الكلام الذي تجمد عند إيقاع آلي، ولغة واقفة من دون أفعال أحوال الذات والأمة.