مدرين المكتومية
هُناك في تلك الأزقة الضيقة والشوارع المتهالكة تكمُن الحياة بمفاهيمها المختلفة وباختلاف ساكنيها، فخلف الأبواب هناك بشر يعيشون الحياة مُخبئين بين أثاث منازلهم أسرارًا لا يعلمها إلا الله، وخلف النوافذ الخشبية هنالك أناس قضوا نصف العمر يحلمون بالتحليق كطائر النورس، فاردين أجنحتهم للهواء، غير مبالين بوجهتهم، وتاركين ليد القدر صناعة مستقبلهم، وهناك من قضوا حياتهم متخبطين بين الممرات والطرق الوعرة بحثا عن شيء لا يدركونه، وعن هدف لم يُحددوه، وعن مصير قابع خلف التخوم البعيدة.
وفي تلك الممرات العتيقة، كانت الحياة بكل تفاصيلها، الصغيرة والكبيرة، كانت هناك حيث كان أولئك الذين نبكي اليوم رحيلهم كلما تذكرناهم، نبكي غيابهم الذي لا تزال ذكرى وجودهم تطغى عليه، نبكي كل هذه اللحظات والساعات والدقائق التي لم تُسعفنا لنقول لهم: "كم نُحبكم.. لو بقيتم معنا قليلا"!!.. لكنَّ القدر دائما يُباغتنا، وفي كثير من الأحيان يأخذ منا أجمل الأصدقاء والأصدق إحساسا.
عند الغياب لا نتذكر إلا تلك الأماكن، وتلك الطرقات التي سلكنها وأيدينا بأيديهم، ولا نذكر من الزوايا سوى ابتساماتهم الرائعة، تلك الابتسامة التي لم ندرك أنها سترحل لتخلف بداخلنا مساحة من الألم العميق، لكننا في كل مرة نقلب في ألبومات الصور، نكتشف أننا مع الزمن نسقط وجها من الوجوه، وبعد كل عام تبدأ الصور تفقد ملامحها وبريقها ليصبح الأمر أشبه بكابوس مزعج، ليتقلص العدد ونكون عندها مضطرين فقط للعيش على ما تبقى من الذكر والمواقف وردود الفعل، كل الأحاديث تعود تباعا وكل الأغنيات التي كنا نُردِّدها معا تصبح بلا معنى، فمن كان يضيف على الكلمات روعة قد رحل، ولم يعد من الأمس شيء سوى بقايا من الصور والملامح وبقايا من الكتب المتهالكة التي احتضنتها أيديهم لفترة من الزمن.
عادة ما يشكل الغياب جزءا من الحضور في الذاكرة، فعندما نعتاد على ارتباط مكان معين بشخص بعينه، يصبح كل شيء مرتبطا بهم، حتى أبسط الأشياء وأقلها أهمية؛ فكل شيء يشكل بالنسبة لنا تفاصيل من محطات العمر ومراحلها، وكل ذلك نبدأ باستشعاره عندما نجد أنفسنا أمام واقع لا مفر منه، ذلك الواقع الذي يخنقنا بحقيقة وجوده، وكأننا في كابوس طويل، لكنَّ الحقيقة أنه هو ما نستيقظ عليه كل صباح، دون تلك النظرة المعاتبة، والصوت المليء بالانزعاج، نستيقظ على حياة فارغة، كل ما يمكننا القيام به هو روتيننا اليومي، فلا حياة كالسابق، فمن كانوا يهتمون بمشاعرنا، وتفاصيلنا، وحزننا وسعادتنا لم يعودوا موجودين، وإن وُجودوا فهناك ما يفصل بيننا وبينهم، ونكتشف أننا محاطون بالكثير من الغرباء الذين لا نشعر حيالهم إلا بسعادة لحظية، ومن كانوا يشكلون لنا العمر بأكمله قد رحلوا وتركونا.
إليكم أصدقائي يا من تعانون الفقد، إليكم يا من حُرِمتم من أم أو أب، ويا من فقدتم من يُمثل لك الحياة، وإليك يا من اضطرتك الظروف للابتعاد لسبب أو لآخر؛ فجميعكم في النهاية مُصابون بالفقد، ولا تجدون من يشعر بكم سوى دموع تذرفونها في مساءات ومواقف كانت لن تحدث بوجود تلك الأرواح من حولكم، ابحثوا حولكم بين الغرباء قد تجدون روحا تحتاج مثلكم لمن يآزرها.