رواية "أرواح كليمنجارو":


سرد الذاكرة المفتوح على جرح غائر (2 - 4)
أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات.
ذاكرة الشخصيات

:
في هذه الرواية يبدو ما تخزّنه ذاكرة الشخصيات موضوعاً أثيراً من موضوعات الرواية، فالشخصيات التي تصعد الجبل إنّما تفعل ذلك على حساب طرف آخر، طرف همجي يزداد هبوطاً في سُلّم وعي المتلقي كلما ازدادت الشخصيات الرئيسية الثلاث صعوداً نحو القمة: تصعد نورة، ويصعد يوسف (وغسان)، بينما يهبط الاحتلال إلى الدرك الأخلاقي الأسفل، وما ذلك إلا لأنّ الصاعدين الذين يرتبطون بالأرض يتذكّرون قوله تعالى"أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (1) " فيتخيلون أنهم أوتاد الجبال التى يثبوتها ويمنعونها من الانجراف تاريخياً إلى عدوّ لا حقّ له فيها. وما المحطات التي يمرّ بها المتسلقون (بوابة لندوروسي، مخيم شيرا، مخيم موير، لافا كارو ـ جبل بارانكو ـ مخيم كارانغا ـ مخيم كوسوفو ـ قمة أوهورو) سوى محطات تنداح من خلالها ذكريات الشخصيات، إلى درجة تجعل هذا الصعود/ الحدث مجرّد خلفية لأحداث تجري في ذاكرتَيْ يوسف ونورة الطازجتين، وفي ذاكرة غسان المهاجرة إلى قلب د. أروى. وهذا ما يجعل زمن السرد يفترق بشكل واضح عن زمن القصة (2) ، وهو ما يجعل الاسترجاع الذي يمتد خارج زمن الرواية الواقعي استراتيجية سردية في رواية تغطي أياماً معدودة من حياة الشخصيات، إذ "كلما ضاق الزمن الروائي شغل الاسترجاع الخارجي حيّزاً أكبر(3)"، كما تقول سيزا قاسم.
أولاً ـ نورة: بطلة الحرب الإلكترونية:
بدت نورة منذ السياقات اللفظية الأولى التي شكّلت شخصيتها وحتى السياقات الأخيرة صورة للتحدي، باستثناء المحطة القصيرة التي حملها فيها صوول؛ فمع ظهورها الأول تتساءل أمّها عن أخطار الرحلة، حين تعلم عن وجهتها، ويأتي جواب نورة معبّراً عن التحدّي الساخر لما يمكن أن تتعرض له من أخطار:
"ـ كيف يمكن لأحد أن يذهب برجليه إلى الأسود لتأكله؟
ـ لا تخافي، فأنا ذاهبة برجل واحدة"، ص21.
وحين يسألها جون في الطريق: هل تعبت؟ ما كان لها "أن تجيب عن سؤال كهذا دون أن تكابر: ـ الطرف الاصطناعي هو الذي تعب"، ص77. وعندما يطلب هاري الكاتب إجراء لقاء معها تلبي طلبه دون تردد، مؤكدة "أنّ الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الإرادة لا إعاقة الجسد"، ص193.
حتى إنّ لحظة ضعفها (أو ضعف طرفها الاصطناعي) الذي دعا صوول إلى حملها شكّل لها لحظة فارقة حيث دبّ رعب غريب "في جسد نورة محيلاً دمها إلى رماد. كانت اللحظة الأقسى منذ بدء الرحلة، بحيث أنهم أحسّوا أنها لن تبتسم قبل مرور عام"، ص202. وبعد انقضاء هذه اللحظة عبّرت عن كرهها للضعف (على الرغم من أنه أصاب غير المعاقين: نجاة وجيسيكا)، وراحت تبكي وتصرخ بينما سوسن تهدّئها: "أنا لست عاجزة ليحملوني. أنا لست عاجزة". ص210.
في ذاكرة نورة القوية التي لا تستسلم تتوارد الصور التي تعرّي الاحتلال الإسرائيلي، الذي حرمها من رجلها منذ أن كانت طفلة صغيرة، فكانت تبحث عنها بلا جدوى. وأمام عجزها تبتدع لها أمّها قصة طريفة: "حين كنتُ صغيرة كنت أسألكِ دائماً: يمّة؟ أين رجلي؟ ماذا كنت تقولين لي؟ كنت تقولين: إن رجلك على رأس الجبل، وحين تكبرين قليلاً سأصعد بنفسي وأحضرها لك من هناك"، ص23.
وانطلاقاً من ذاكرة الطفولة تُقبل دون تردد على خوض تجربة الرحلة في ثوب رمزي، يوحي أنها ستصعد كليمنجارو لتستعيد رجلها، ولتنتصر على من أخذوها: "لن أنتظر أكثر مما انتظرت؛ أنا ذاهبة إلى هناك لكي أحضرها بنفسي. لقد اكتشفت من زمن أنها ليست فوق قمة جبل عيبال ولا فوق قمة جبل جرزيم. هل تعرفين أنها كانت طوال الوقت فوق قمة كليمنجارو"، ص23.
هكذا أصبح صعود الجبل حلمها، بعد أن كان حلم أمّها. وفي الأحلام، حتى إن كانت أحلام يقظة، فإنّ صعود الجبال يعبّر في نفس الحالم عن "مطلب يطلبه وأمر يرومه، فليسأل عمّا قد عمّ [همّ] به في اليقظة أو أمّله فيها(4)"، فإذا سألتهما عن مطلبهما فإنهما لا تبغيان استعادة القدم المسروقة على وجه الدقة، بل استعادة الوطن المسروق.
من أجل ذلك فإن عذابات الحواجز العسكرية لم تثنِ عزيمة نورة؛ إذ ""كان عليها أن تتوقف أمام الحواجز، وأن تخلع ساقها الاصطناعية لكي تثبت للجنود الإسرائيليين أنّ ما يثير جنون أجهزتهم الإلكترونية ما هي إلا ساق لا علاقة لها بجسدها بقدر ما لها علاقة بوجودهم"، ص225. حتى إنّها تتحدّى المجندة الإسرائيلية التي طلبت منها أن تخلع بنطالها، حين تخبرها في وجهها، دون خوف، بأنّ إعاقتها هي من نتائج قمع المحتلّ وهمجيته:
"سحبت نورة البنطال، فانكشفت ساقها السليمة: هل يكفيك هذا؟
ـ أريد أن أرى رجلك الثانية.
ـ لكنها غير موجودة، إنها عندكم"، ص226.
إضافة إلى ذلك فإن ذاكرة نورة أفرزت للقارئ عدداً من المواقف التي تفضح ذهنية أولئك الطغاة الذين حاصروا قريتها التي كانت تحضّر لمهرجان الطائرات الورقية:
•    "تذكرت نورة كيف حاصر الجيش قريتهم حينما علم بأن هنالك مهرجاناً للطائرات الورقية سيقام فيها"، ص84.
•    "لم يفشل المهرجان تماماً، ووجد الجنود أنفسهم وجهاً لوجه مع وجوه فرحة وعيون تتابع تحليق الطائرات بانتشاء"، ص ص85ـ86.
غير أنّ الأمر المفصلي الحاسم الذي تذكّرته نورة، أو سردته ذاكرتها، هو استهزاء الضابط الإسرائيلي بفكرتها صعود الجبل؛ إذ "ضحك وانحنى وكتب شيئاً على الجريدة التي في يده ثم ناولها الجريدة: إن استطعت فلا تنسي إرسال الصور لي. هذا إيميلي.
ـ سأفعل، سأفعل بالتأكيد"، ص229.
إنّ الضابط الإسرائيلي هنا لا يكتفي بالانتماء إلى المجتمع المراقب للمعوقين جسدياً، حيث يتوقع منه عدم الإنجاز، بل يصرّح تصريحاً فظاً بتوقعاته من وجهة نظر نرجسية. ومعروف أنّ "توقعات المجتمع المتدنية لدور المعاق تنعكس بدورها على صورة الذات لديه(5)"، غير أنّ توقعات الضابط الإسرائيلي المنتمي إلى مجتمعٍ مُعادٍ أثّرت ها هنا على نحو معاكس، وأججت روح التحدّي في روح نورة التي كانت حريصة على أن تتصور في كلّ مرحلة من مراحل الصعود، وأن تبتسم في الصور، وأن تخوض حرب البسمة الواثقة ضدّ ذلك الضابط؛ لتثبت أنّ العنق يمكن أن تتحدى السكين. لذلك كان أول ما فعلته عندما عادت إلى بيتها في نابلس انتقاء عشر صور لها، تبدو فيها سعيدة جداً، وأرسلت إيميل إلى ذلك الضابط؛ لتنتصر عليه انتصاراً حاسماً:
"دفع كرسيّه إلى الوراء خطوتين، وظلّ يحدّق في الصورة الأخيرة، صورتها فوق القمة، رافعة بيد العلم الفلسطيني، وراسمة إشارة النصر باليد الثانية.
سمع صوت زوجته غاضبا: شلومو، كم مرة سأدعوك؟ الطعام أصبح بارداً.
ـ لن آكل الآن"، ص374.
المصادر:
1)    القرآن الكريم، سورة النبأ: 6 ـ 7.
2)    هناك دائماً زمنان هما زمن السرد، وزمن القصّة، مع ملاحظة أن "زمن القصّة يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي للأحداث ، بينما لا يتقيد زمن السرد بهذا التتابع المنطقي". تمكن مراجعة:
3)    حميد لحمداني: بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء ـ طـ1، 1991، ص 73.
4)    (67) ـ
5)    سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة في ثلاثية نجيب محفوظ)، دا رالتنوير، بيروت، طـ1، ص 55.
6)    محمد بن سيرين: منتخب الكلام في تفسير الأحلام، اعتنى به ورتّبه: محمود طعمة حلبي)، دار المعرفة، بيروت، ط5، 2002، ص90.
7)    د. عبد المطّلب أمين القريطي: سيكولوجية ذوي الاحتياجات الخاصة وتربيتهم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص23.

 

تعليق عبر الفيس بوك