عنجهية غلق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية

 

عبيدلي العبيدلي

 في خطوة لم تحمل الكثير من عناصر المُفاجأة، أعلنت واشنطن رسمياً "إغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية"، وهو ما اعتبرته بعض المصادر "صفعة جديدة تضاف إلى سجل الصفعات المتتالية لتي توجهها إدارة ترامب للفلسطينيين، من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس إلى وقف تمويل منظمة الأونروا وحتى خفض تمويل المستشفيات في القدس الشرقية". على نحو مواز نظرت مصادر إلى ذلك الإجراء على أنه خطوة أخرى على طريق "إجراءات توضح يوما بعد يوم ملامح صفقة القرن الغامضة، (التي ترفع علامة استفهام كبيرة تتساءل)، إلى أين تريد الإدارة الأمريكية إيصال ما تبقى من القضية الفلسطينية؟ وما هي أوراق الفلسطينيين أمام كل هذه الضغوط؟".

بات واضحًا أن ما تريده الإدارة الأمريكية الحالية يصب في طاحونة محاولاتها إلى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، ليس بحثاً عن سلام دائم كما يروج البعض، ولا من أجل إعطاء، حتى بعض الحقوق للشعب الفلسطيني كما يتوهم البعض الآخر، وإنما من أجل ضمان سلامة زوايا مثلث الاستراتيجية الأمريكية تجاه هذه المنطقة، وهي: الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني، وتأمين تدفق النفط الشرق أوسطي، وتحديدا العربي بالكميات التي تحتاجها السوق الأمريكية، وبالأسواق التي لا ترهق اللاعبين الأساسيين في تلك السوق، وسيطرة صناعة السلاح الأمريكية على مقتنيات دول المنطقة منها، بما يوفر استمرار التوتر فيها.

ولتحقيق ذلك، وتحديدا في إطار الصراع العربي – الصهيوني الأكثر شمولية، ودائرته الضيقة التي تشمل الشق الفلسطيني – الصهيوني منه، حرصت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه هذه المنطقة، وفي نطاق دبلوماسيتها الدولية، حتى خلال مرحلة الحرب الباردة، على عدم التفريط في العلاقات الاستراتيجية الأمريكية –الصهيونية، بغض النظر عن بعض الاستثناءات المؤقتة، والتجميلية التي عرجت عليها تلك العلاقات، والتي لم تترك سوى خدوشًا سطحية على جوهر تلك الاستراتيجية.

المسألة التي يمكن التوقف عندها اليوم، هي تلك الأوراق الجديدة التي باتت بحوزة القضية الفلسطينية، والتي يمكن أن تشكل، متى ما استخدمت على نحو جيد، رافعة تاريخية بوسعها أن تؤثر في ميزان القوى الفلسطينية –الصهيونية، لصالح الأولى، وليس الثانية كما قد يبدو المشهد من الخارج.

على المستوى الدولي، هناك الفشل الذريع الذي عصف بكل ما بُني على أرضية علاقات دولية تقوم على فرضية نظام عالمي أحادي القطب، والتي روجت لها الإدارة الأمريكية إثر تفسخ المنظومة السوفيتية، إثر الهزيمة التي مُنيت بها سياساتها الاستعمارية في آسيا الوسطى، وعلى وجه الخصوص في أفغانستان. فالعلاقات الدولية اليوم تحكمها قوانين عالم متعدد الأقطاب، بعد ولوج ساحته أكثر من قوة عظمى، تتصدرها الصين كدولة كبيرة، وبعض اللاعبين الأصغر حجمًا مثل تركيا.

ومن ثم لم تعد أوراق اللعبة حكراً على قطبين هما واشنطن وموسكو، ولا قطب واحد تضع قوانين فضائه الدوائر الأمريكية. هذا يوسع من هامش الحركة التي يمكن أن تنعم بها القضية الفلسطينية، متى ما أحسن استثمارها، وتم الاستفادة منها على نحو أفضل.

على المستوى الإقليمي، ورغم العواصف التي اجتاحت سماء البلدان العربية خلال السنوات العشر الماضية، وأدت إلى اختلال موازين الصراع العربي – الصهيوني لصالح هذا الأخير، لكن دخول لاعبين إقليميين، لهم مصالح ذاتية مباشرة تتناقض، بشكل أو بآخر، ولو بشكل ثانوي، مع المشروع الصهيوني، يوفر هامشا من الحركة أكثر اتساعا لصالح الطرف الفلسطيني، مقارنة مع ذلك الآخذ في الانكماش، عند الحديث عن الطرف الصهيوني. فالتنافسات الإقليمية على كسب "ود" واشنطن يفتح أمام القضية الفلسطينية فتحة، حتى وإن كانت ضيقة، لكنها تتيح أمامها مساحة أوسع للحركة، دون أن يعني ذلك تبني مدخلا تحالفيا ساذجا لا يرى بوضوح الأطماع "القومية" التي تقف وراء كل منها.

على المستوى المحلي، وفي شقه الصهيوني، لا بد للطرف الفلسطيني أن يرى مسألتين: الأولى منهما أن الكيان الصهيوني يعاني من محن خانقة، تعبر عنها التداعيات الاقتصادية، التي تتمظهر في قرارات سياسية، تعبر في جوهرها عن أزمات بنيوية في اقتصاد الكياني الصهيوني، ليس قانون الجنسية الأخير سوى أحد الأمثلة الصارخة عليها، الثانية هو ذلك الحضور السياسي المتنامي لفلسطيني 1948 في المشهد السياسي الصهيوني، والذي بات يؤرق دوائر صنع القرار في الدوائر الصهيونية. هذا التكامل بين ترنح اقتصادي للكيان، ونمو مواز لهامش قوة فلسطيني 1948، يمكن متى ما أتقن الفلسطينيون الاستفادة منه، بعيدا عن صراعاتهم الداخلية، أن يشكل شوكة مؤلمة في خاصرة الكيان الصهيوني، وردا غير مباشر على عنجهية واشنطن تجاه النضال الوطني الفلسطيني من جهة، والسياسيات العنصرية التي تمارسها قوات الكيان الصهيوني تجاه الفلسطينيين، سواء في غزة، أو أراضي 1948 المحتلة من جانب آخر.

لكن الإتقان، والاستراتيجية المؤثرة، ينبغي أن تكون أبعد نظرا من ردة فعل عشوائية، تبحث عن سلاح إعلامي فقط، وأكثر رسوخاً من عمليات انتقامية سريعة لا تتجاوز حدودها بعض الآلام غير الموجعة في جسد الكيان الصهيوني.

ونقطة الانطلاق هنا، هو الالتفات الفلسطيني نحو الداخل، وتقليص الخلافات التي كانت، وما تزال تنهش الجسد الفلسطيني، وتنهكه في صراعات ثانوية، تكاد أن تصل إلى مستوى الحالة العبثية. ومتى ما تمَّ ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، على نحو إستراتيجي، لا تغريه بعض المكاسب الآنية السريعة، ستجد واشنطن نفسها، قبل سواها من العواصم الدولية الضالعة في الصراع، على إعادة النظر في سياساتها ليس إزاء الصراع العربي – الصهيوني، فحسب، وإنما في جوهر هذا الصراع ولبه، وهو الصراع الفلسطيني – الصهيوني.

وسيفرز هذا المدخل، بشكل موضوعي، الاستراتيجية التي نتحدث عنها، والتي ستشكل في صلبها الرد الصحيح على عنجهيات السياسة الأمريكية، التي ستجد نفسها، مرغمة، إن هي شاءت أن تحافظ على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط أن تعيد رسم مثلث تلك الاستراتيجية، بعد أن تخرج زاوية الدفاع عن أمن الكيان الصهيوني من مثلثها.