عبدالله العليان
جَرَى بيني وبين أحدهم من رواد التواصل الاجتماعي منذ عدة أيام، نقاشٌ، حول الفلسفة الاقتصادية الليبرالية، وكان متحمساً لهذه الفلسفة إلى حد تبرئتها من أي سلبيات، وهذا حقه في أن يكون له موقف مختلف تجاه أي رؤية فلسفية، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا أو اتفاقنا معه في هذه النظرة.
لكنَّ الإشكالية أن صاحبنا يصر على أن الليبرالية خالية من كل العيوب، ونزيهة من كل النواقص، وهذه أراها فكرة حدية، لا تكون في النظريات والفلسفات، وكأنها أقرب للتقديس والتنزيه؛ فالأفكار مهما كان إخلاص أصحابها لها، تظل رؤية نسبية، ولا تمتلك الحقيقة ولا الصواب الكامل الذي لا تشوبه السلبيات ولا العيوب؛ فالرأسمالية، وهي الأم الأصلية لليبرالية التقليدية أو الجديدة، التي ادَّعت أنها تستطيع أن تقدم التوظيف والتوازن الكامل لنشاطها الاقتصادي من خلال "ميكانيكية السوق"، ووفق الشعار الشهير المعروف "دعه يعمل.. دعه يمر"، فإن هذا الشعار، ومن خلال هذه الفلسفة الليبرالية الرأسمالية، يرى تقديم المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية، وتعتقد أن من هذه المنطلقات، فإن المصلحة الفردية دون غيرها هي التي تقدم التوازن في حركة السوق. لكن هذه الرؤية تجاه النظرة الفردية لحركة السوق، جعلت هذه الليبرالية المطلقة، تتوحَّش اقتصاديًّا لمصلحة أصحاب المصانع وأرباب الأعمال الكبار، إلى حد أنَّها سخرت العمّال للعمل في ظروف قاسية، دون مراعاة لظروف جهدهم المضاعف، أو حقوقهم الإنسانية مقابل عملهم، وهذه الفلسفة الاقتصادية، لاقت نجاحاً لاشك بحسب كتابات بعض النقاد، لكنها لم تكن عادلة أخلاقيا، في نظرتها للعمالة المستخدمة.
فظهرت الكثير من الدعوات والفلسفات في أوروبا، تطالب بتعديل وتهذيب الليبرالية الرأسمالية المغالية في رؤيتها الفردية الكلاسيكية، خصوصاً من قبل الأفكار والفلسفات الاشتراكية متعددة الرؤى والمنطلقات الفكرية، سواء الاشتراكيات المغالية في ردت فعلها، كالنظرية الماركسية، أو التي تطالب بالتعديل في نظرتها للحقوق الاجتماعية، كالاشتراكية الفابية، وغيرها من أنواع الاشتراكيات الديمقراطية، التي اهتمت بقضية الحقوق العمالية والعدالة الاجتماعية، فهذه الدعوات والفلسفات الناقدة لليبرالية المطلقة لتعديلها، أو الداعية إلى نسفها كما دعا كارل ماركس في كتابه "رأسمال المال"، فإن الليبرالية المطلقة، لاقت ضغطاً كبيراً من الحراك السياسي والاجتماعي المناهض لتطبيقاتها في أوروبا، كما أن هذا النظام الليبرالي لاقى انتكاسة كبيرة منذ بداية القرن العشرين، أو كما يسمى بـ"الكساد الكبير"، الذي وجه ضربة قاسية لهذا النظام، وهذا الأمر كما يقول الدكتور رمزي زكي: "حطّم تماماً أوهام الفكر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي الذي كان ينكر إمكانية حدوث الأزمات للنظام الرأسمالي، ويدَّعي عدم وجود تعارض بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. وقد مهد الكساد الكبير السبيل لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وأن يكون لها دور فاعل في المجال الاجتماعي".
بعد هذه الفترة التي واجهتْ الليبرالية الرأسمالية من الانتكاسة، وبروز العيوب والتذمر من تطبيقاتها الاقتصادية، وبرزت حركات وأحزاب معارضة للنظام الرأسمالي، منها الأحزاب التي مالت إلى الاشتراكية الديمقراطية، دون المطالبة بالتغيير العنيف كما أشرنا آنفاً، مثلما حصل في الثورة البلشفية 1917، وهذه المرحلة المعدلة -الجديدة أو المنظمة- واصلت تعديلاتها للكثير من فلسفتها التقليدية، مما أسهم في تدخل الدولة، والقيام بنشاطات اقتصادية لمعالجة الكساد والتعديل من نظرتها الفردية، وهذا يعني أن الرؤية السابقة لليبرالية المطلقة التي جعلت حرية السوق دون ضوابط، ودون مراعاة للجانب الاجتماعي، لم يحقق التوازن، وثبت فشله عمليًّا، وأن مسألة الاحتكار وفتح الباب للرأسمالية الفردية، دون تدخل الدول، لا يمكن أن يستقر دون مشكلات، في غياب النهم في الاستغلال وتذمر العمال واحتكاكاتهم، وهذا ما جعل حزب العمال البريطاني يحقق نجاحاً كبيراً في الانتخابات عام في بريطانيا 1945، ونجح مرة أخرى في العام 1950، وهو الذي أسس قوانين وتأمينات اجتماعية رائعة في المملكة المتحدة، مثل التأمين الشامل للتقاعد والعجز، وأيضا وقانون الصحة الوطنية والعديد من القوانين التي راعت الجانب الاجتماعي، وهذا بلا شك، أسهم في استقرار الاقتصاديات الرأسمالية بعد ذلك.
وللحق أن الحريات العامة في النظام الليبرالي أسهمت في التعديل من خلال تأثير المجتمع المدني وحركته، والنقابات ونشاطاتها، وحرية الصحافة في نقدها، كل هذا أسهم في التعديلات والتهذيب للنظام الليبرالي الرأسمالي، وهو ما جعل النظم الليبرالية تستقر وتنجح في مسارها السياسي والاقتصادي، من خلال الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، بينما بقيت النظم الاشتراكية جامدة دون تجديد، مما عجّل بسقوطها ومن الشعوب نفسها، وأهمها غياب الحريات والديمقراطية، والنظرة الشمولية والقبضة الحديدية، لأنها تريد الحرية لتتنفس من القبضة الحديدية، وها هي روسيا الاتحادية الآن في وجود التعددية السياسية والحرية المقننة، استطاعت أن تستعيد نفسها ومكانتها، وأصبحت ندًّا قويا للولايات المتحدة في مسارات كثيرة.
إذن؛ ليست تهناك نظرية بشرية تبقى ثابتة، دون أن تبرز فيها العيوب والثغرات، وهذه سُنَّة كونية، وهذه تنطبق على الحضارات، التي لها أعمار وتنطفئ، أو تتراجع للخلف، والتاريخ -كما هو معروف في التجربة الإنسانية- شأن متحرك ومتغير، ومن الصعب، بل ومن المستحيل، القول إن نهاية التاريخ ستبقى عند الليبرالية الرأسمالية الغربية، كما ادعى فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ وخاتمة البشر"، وللحق أن فوكوياما تراجع عن النظرية التي قالها، وكانت مجرد فكرة مع نشوة الانتصار بسقوط المعسكر الاشتراكي، في بعض أحاديثه بظهور العديد من القرائن التي تخالف ما قاله، ولولا التعديل والتغيير وترقيع الأفكار، لسقطت الليبرالية في كل أوروبا قبل سقوط المعسكر الاشتراكي، ولظهور المثالب والعيوب، وجانب الحريات التي جعلت التغيير سمة بارزة في الأنظمة الليبرالية، ومع ذلك فإن الأحزاب الاشتراكية في غرب أوروبا وأمريكا اللاتينية، تحقق شعبية كبيرة منذ عقود ولا تزال، ونجحت في تشكيل وزارات في دول كبيرة في أوروبا.
فجمود الأفكار والنظريات يعجِّل بنهايتها، والتجديد والتعديل يُسهم في سد ثغراتها، لكن لا ثبات لأفكار البشر، مهما اعتقد البعض بمثالية بعضها أو معقوليتها في بعض المراحل.. ولله في خلقه شؤون.