العمّ هاشم: مين يشتري الورد مني


إيهاب القسطاوى - بيروت


«لأكثر من أربعة عقود خلت، هى عمر سنوات التهجير، والعمّ "هاشم" يجوب لبنان من أقصاه إلى أقصاه محرضًا على الجمال، يحمل أزهاره التى تتألق بالألوان الزاهية، ويرتدي الملابس الزرقاء ذاتها ويغطّي رأسه بالطاقية السوداء نفسها ، ويجرّ خلفه شذى عطرها ، قاصداً الأمكنة التي شهدت حالة الدمار الذي خلفتها الحرب، ليعالج بأزهاره ما أفسدته الحرب ، وما فشلت السياسة في آن تعالجه.
العمّ "هاشم" ذو التسعة وثمانين ربيعا والذي يبدو للناظر إليه أصغر سناً والذى افترشت شفتيه ابتسامة عذبة واعدة، تلملم تجاعيد الماضى المتناثرة الجافة، فقد بدا وجهه مشرقاً ونضراً، مفعماً بالحيوية والثقة، كانت الزهور والنباتات، العشق المرافق له منذ نعومة أظافره، حتى ذاع صيته وأطلقوا على شرفته المطلة على ضواحى بيروت قبل سنوات التهجير اسم "جنينة بيروت".
يشعر العمّ "هاشم" بالزهو والفخر بما تصنعه يداه ، فإنه يرى أن رسالته تتجلى في مقاومة القبح بالجمال، ومقاومة البارود بالورود، ويا لها من مهمة شاقة قد لا يدرك البعض مدى عظمتها وقيمتها.
يعيش العمّ "هاشم" بمفرده في منزله البسيط المكون من طابق واحد، والذى يشبه في شكله الخارجي الكوخ كثيرًا نظرًا لدقة وبساطة تصميمه، حياة هادئة بعيداً عن الاضطراب والقلق والتوتر، عقب وفاة زوجته منذ أكثر من أربعة أعوام الا إنها لم تخلُ من فراق يمتزج فيها الألم مع الحنين، ولشراء هذا المنزل قصة من قصص النبل، لا تقل نبلاً عن صاحبها، فقد اعتزم العمّ "هاشم" على شراء هذا المنزل نظرا لوجود سنديانة عملاقة كانت تفرض سطوتها في السماء محلقة بفروعها شامخة، تمتد جذورها إلى عمق التاريخ باعتبارها قد تكون أقدم شجرة في ضيعة "ايعات" تقبع خلف سياجه، ولم تحظى هذه الشجرة، التي ربما تكون اقدم شجرة في مدينة بعلبك ، بشهرة كبيرة، وتكاد تكون مجهولة، حتى أن كثيرا من سكان الضيعة التي تقع الشجرة فيها لا يعرفون عنها الكثير ، الا من بعض التفاصيل المتناثرة من سكان الضيعة القدماء.
بصوت خافت وقد وجّه ناظرَيه صوبى ، وهو يتحرك بصعوبة مستنداً على عكازه ، داخل سياج مملكتة الخاصة ، حاملا بعض الأدوات الزراعية البدائية البسيطة للاعتناء بحديقتة ، يقول : "إستيقظ من نومى فى الساعة السادسة صباحًا ، لا أهتم لوجبة الفطور وأكتفي بفنجان من القهوة بالحليب ، أقضي معظم ساعات يومى برفقة ازهارى ، فأنا أشعر بعاطفة تجاههم ، لدرجة اننى فى بعض الاحيان أبكي لشدة تعلّقي بهم ، اشعر بهم كاطفالى فهم يحتاجون إلى رعاية خاصة لذلك احرص على رعايتهم والإهتمام بهم ، وأنني اشعر بالهدوء التام و الراحة معهم ، فلا اجد اجمل وأفضل من مجاورة الزهور .
يتعامل أهالي ضيعة "إيعات" تلك البلدة اللبنانية الصغيرة الواقعة في محافظة بعلبك الهرمل وتشتهر بعامودها الأثري الكورونثي الذي يصل ارتفاعه إلى 18 مترا ، مع العمّ "هاشم" باعتبارة أحد أفراد الضيعة على الرغم من أنه قد وافد عليهم منذ أربعة أعوام فقط ، بالنسبة إليه ، يقول : "أفضل لحظات قد تمضى بى هى عندما يمُر على العابرون مُلقين السلام"».

 

تعليق عبر الفيس بوك