عبدالله العليان
يعتقد البعض أنَّ الأزمة التركية-الأمريكية، ليست وليدة قضية القس الأمريكي أندرو برانسون في تركيا؛ لكنها سابقة عليه منذ عدة سنوات، خاصة الموقف التركي من السياسات الإسرائيلية، والمتعلق بالانتهاكات المستمرة في غزة، واستمرار الحصار عليها منذ سنوات، وما سبق ذلك من قيام تركيا بإرسال السفينة التركية "أسطول الحرية"، التي تعرَّضت للهجوم من إسرائيل، وتم اغتيال وإصابة العشرات من الأتراك وغيرهم ممن كانوا على ظهرها.
وبقيت العلاقة يشوبها التوتر بين الحين والآخر، لاسيما المواقف التركية بعد تولي الرئيس رجب طيب أردوغان، وما يرونه من سياسات مختلفة؛ ومنها: التوجه بتركيا تجاه الهُوية الإسلامية، ومحاولة استعادة ما تقوله بعض الصحف الغربية من إعادة الخلافة العثمانية، بعدما تم القضاء عليها من قبل مُصطفى كمال أتاتورك، الذي طبق النظام العلماني الغربي، ومحو الهُوية الإسلامية، وبعد الانقلاب الأخير الذي جرى في تركيا 2016 للتخلص من الرئيس أردوغان، والذي اتَّهم فيه المفكر التركي فتح الله كولن، الذي يقيم في الولايات المتحدة منذ عدة سنوات.
لا شك أنَّ قضية القس الأمريكي المحتجز في تركيا قضية غامضة وتدعو للتساؤل، عن سبب الغضبة الأمريكية على تركيا؟ ولماذا الإصرار على تسليمه بالفرض على دولة مستقلة؟ ولماذا العقوبات والتهديد بمزيد منها إن لم يتم الإفراج عنه؟ والغريب أنَّ الولايات المتحدة رفضت تسليم فتح الله كولن بعد إدانته من قبل محاكم تركيا، بأنه المدبر الفعلي للانقلاب؛ فالولايات المتحدة ترفض تسليمه، وفي الوقت ذاته تطالب تركيا بالإفراج عن القس أندرو برانسون، من خلال استهداف الليرة التركية، وضرب الاقتصاد التركي، وهذا بلا شك ظاهرة لافتة في سياسات الدول، خصوصاً وأن تركيا تربطها علاقات كبيرة، إلى جانب أن الطريقة المتبعة في هذا الأمر لا تستقيم واحترام سياسات الدول وقوانينها؛ لذلك جاء رد تركيا بخطوة زيادة الضريبة على الواردات الأمريكية بنسبة 100%، فما هو سر هذا القس الذي قامت قيامة الإدارة الأمريكية إلى حدِّ العقوبات والتهديد بمزيد منها؟
الأوساط السياسية التركية والقضاء يتَّهِمان القس بالجاسوسية، إلى جانب اتهامه بدعم فتح الله كولن، وبي.بي كا.كا (حزب العمال الكردستاني)، وهذا يعني أن هذا القس ربما لديه الكثير من الأسرار السياسية والعسكرية، وهذا ما دعا القضاء التركي في ولاية أزمير التركية لرفض طلب للإفراج عنه من محاميه.
والإشكالية أنَّ الخطوة الأمريكية اعتبرتها تركيا طريقةً للإرغام والفرض، وهذا ما جعل الأوساط الحزبية التركية ترفض هذا التهديد، وتتَّفق مع الموقف السياسي التركي في هذه الأزمة؛ فالطريقة الأمريكية في حل أزمة القس جاءت وكأنها إرغام من خلال تنفيذ العقوبات، وهذه جعلت الشارع التركي يتفاعل مع القضية، ويُنَاصِر حكومته تجاه الولايات المتحدة، ومن المعارضة التركية أيضاً في الداخل، ونتيجة لردة الفعل للعقوبات، أعلن وزير المالية التركي "أن السندات السيادية التركية المقّومة بالدولار، حققت نجاحاً عزَّز الليرة التركية بعد انخفاضها مع بداية الأزمة، وحققت السندات المستحقة في 2045 بعضا من أكبر المكاسب مع صعودها 3.7 سنت، ليجري تداولها عند 81.95 سنت، وهو أقوى مستوى لها منذ يوم الجمعة الماضي، وفقا لبيانات تريدويب (عند 81.95 سنت)". ويعتبر أقوى مستوى لها منذ عدة أسابيع بحسب بعض التقارير، وهذا يعني أن العقوبات لم تحقق تأثيراً كبيراً على الاقتصاد التركي. والتوقعات بعد هذا الخلاف الكبير الذي اعتبرته تركيا وكأنه إعلان حرب على الاقتصاد التركي، أن العلاقات التركية-الروسية، سوف تتوسَّع كثيراً على حساب العلاقة مع الولايات المتحدة، وهذا ليس في المجال العسكري، بل في كل المجالات الاقتصادية والتنموية، وربما أيضا أن تنمو العلاقة مع الصين بصورة كبيرة، كما أنَّ مع ألمانيا لن تتأثر بالأزمة بحكم القرب الجغرافي، والعلاقة التاريخية مع تركيا، كما العلاقة بين إيران وتركيا، وسوف تتقارب في المجالات الاقتصادية.
فالولايات المتحدة اتخذت موقفاً شديداً بعد الخلاف حول القس الأمريكي المحتجز، وكان يُمكن أن تحل الأزمة بالطرق السياسية، لكن يبدو أن الولايات المتحدة، لها موقف مُسبق من السياسة التركية في قضايا عديدة، جعلها تتَّخذ هذا الموقف المتشدد الذي قد يوتر العلاقة بشكل أكبر في المستقبل، وهذا بلا شك من الدوافع أن تقترب تركيا من روسيا بشكل أكبر. ويرى الكاتب بشير البكر أن "روسيا دخلت على الخط، وعبَّرت عن موقف داعم لتركيا؛ من خلال تسديد ثمن الصفقة البالغ 2.5 مليار دولار بالليرة التركية. وهذا يعني، من الناحية السياسية، تسريع وتيرة التقارب بين تركيا وروسيا، وهو هنا يتم على حساب العلاقات التركية-الأمريكية، ذات الحمولة التاريخية، ومتعدِّدة الاتجاهات بين عسكرية وسياسية واقتصادية".
الحقيقة أنَّ الأزمة جاءت في صالح روسيا؛ كونها أيضاً تواجه عقوبات أمريكية، وتقول التحليلات إن تقارباً متوقعاً أن يتم بين روسيا وتركيا وإيران والصين، وهذا قد يشكل تحالفاً اقتصاديًّا كبيراً يمثل تحديا للولايات المتحدة، لذلك فإن دول الاتحاد الأوروبي لا تتفق مع السياسات الجديدة التي اتخذها الرئيس ترامب؛ كونها لا تخدم أوروبا ولا أمريكا، وسوف تسهم في مزيد من التوترات والأزمات الاقتصادية؛ فالأزمة لا تزال قائمة، لكن ما هي التوقعات التي سوف تسفر عن هذه الأزمة؟ الأنظار تتجه إلى الولايات المتحدة، خصوصا وأن ترامب يواجه أزمة سياسية قائمة؛ لأن الأزمات القائمة مع تركيا ومع غيرها جاءت بعد توليه سُدة الحكم؛ لهذا يرى البعض أن خروجه ربما يكون إيذانا بالحل، أما إذا بقي فإن الأزمات ستستمر، إلا إذا اتخذت المؤسسات السياسية الأمريكية موقفاً قويًّا، يحد من هذه السياسات التي يتخذها ترامب مع دول العالم.. وهذا يرجحه الكثير من المحللين.