فلسطين في أدب سميرة عزام (5 - 5)


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارت


وفي قصة "خبز الفداء " (93) التي هي قصة البطولة والتضحية الحقَّة ، ينبعث الأمل من عيني سعاد ، ومن دمها أيضاً ، فسعاد / فلسطين ، حية وشهيدة لا تزال تمثل طموح الفلسطينين / رامز لذلك تصبح عينا سعاد رمزاً للوطن :
" وفي عيني سعاد رأى خير فلسطين كله ، رأى ظل بيت سعيد له ، وزوجة تنجب له أبطالاً صغاراً وتجعل من حبه معنى لوجوده " (94) .
وحين تمضي سعاد شهيدة في سبيل الوطن لا تفقد نظرتها أي معنىَّ من معانيها ، بل لقد كان موتها طريقاً جديداً للحياة :
“ لم يكن في نظرتها موت،في عينيها اللتين تتحديان أي شيء .كان فيهما حبُّ ووعد بالحياة “ ( 95 ) ، وهذا الوعد سيكبر ،وستزداد المقاومة ضراوة ،خاصة في نفس رامز الذي سيأكل من خبز الفداء وسيستقر شيء من سعاد في أحشائه ، داعياً إياه إلى مزيد من الفداء 0 الوطن المستتر :وإذا كانت سميرة عزام قد عبرت عن موضوعات الأدب الفلسطيني ومراحله بوضوح كما رأينا فيما سبق ،فإن الكاتبة كانت تقدم أفكارها ، في بعض الأحيان ، من خلال ستار شفيف . وثمة خمس قصص يمكن ببساطة كشف ستار الرمزية عنها ، تقع أربع منها في مجموعة " الساعة والإنسان " بينما تقع الخامسة في مجموعة " العيد من النافذة الغربية " .
قصة " الساعة والإنسان "( 96 ) تتحدث عن أبي فؤاد الذي يوقظ موظفي سكة الحديد في حيفا حتى لا يفوتهم القطار ، إنه ذاق مرارة التأخر عن القطار ، فقد سقط ابنه قتيلاً تحت عجلاته . . . دراما اللحم والحديد دعت أبي فؤاد إلى أن يوقظ جميع العاملين طيلة حياته ، وحين يموت يترك وراءه ساعة تقول : تك . . تك . . تك . . إن شخصية أبي فؤاد هنا شخصية رمزية ، حيث فؤاد رمز الشهداء ، ودور والده ، هو إنقاذ حيفا ، المدينـة النائمة ، إنقاذ أهلها وتنبيهم على الخطر ، قبل أن يفوتهم القطـار : قطار الزمن ، لذلك فعليه أن يوقظ الجميع : فتحي وغسان وعبد الله ويوسف ، و حين يموت يكون موته مدوياً ، فالساعة التي مازالت تتكلم ، حين صمت كل شيء ، تقوم هنا مقام أبي فؤاد ، الذي قام بدوره على أكمل وجه ، ثم ترك للزمن بعد ذلك أن ينبه على نفسه .
و لا تبتـعد قصة " وهل كان رمزي " ( 97) كثيراً عن القضية الوطنية فالكاتبة ، وإن كانـت تستخدم الرمز بطريقة أقل وضوحاً ، تقدم لنا قصة ولد ضاع وهو في الرابعة من عمره ، وكان يرتدي بنطالاً أزرق ، وبعد أربع سنوات يظهر رمزي ، ولكن الأم لاتعترف به ابناً فقد تركته ولداً في الرابعة يرتدي بنطالاً أزرق ، وهذا الغريب القادم ليس كذلك …
بعد أيام من بقائه في دار أمه ، يهرب الغريب مرة ثانية لتعود الأم فتقف على باب المدينة سائلة المارة “ هل فيكم من رأى ولداً في الرابعة ، يلبس بنطالاً أزرق ؟ “ (98) ..
إنه الوطن الضائع المغدور ، الذي سرقه الغزاة ، وغيروا ملامحه ، لذلك فإن صديق رمزي يقول ، عندمـا يراه مرة ثانية “ قد يكـون رمزي ، ولكنه ليس رمزي الذي أعرف “ (99) والأم ترفض أن تقبل ابنها / وطنها ، إلا كما كان ، جميلاً لا تدنسه أقدام الغزاة .
أما “ قصة الحب والمكان “ (100) . فهي تستخدم الحيوان رمزاً واضحاً : إنها قصة الكلب الذي تنتقل رعايته من مستأجرٍ للبيت إلى مستأجر آخر ، ولكنه يظل مخلصاً لمالكه الأصلي ولبيته ، وحين يعود المستأجر السابق،صاحب الكلب ، تتحرك المشاعر (الإنسانية )في الكلب ، فيهش ويبش وينبح نباحاً فيه سيماء الفرح ، ويعانق صاحبه ، ولكنه حين أخذه صاحبه إلى الباب الحديدي يريد إخراجه من الدار ، عوى بشدة وعاد إلى مكانه وتشبث به كأبي هولٍ صغير .. إن المراد هنا من شخصية الكلب أن تكون قدوةً للإنسان وتبعث في النفس شعوراً بضرورة التشبث بالأرض وعدم التخلي عنها .
أما قصة “ طير الرخ في شهربان “ (101) ، فتقترب من القضية القومية أيضاً ، إنها حكاية راضي الذي حارب مع الترك في القفقاس ، ثم عاد حياً إلى العراق ، بعد أن انتقل هارباً ، من تفليس إلى تبريز إلى طهران ، عاد لينبه قومه على وجود قطارات وسيارات وطائرات في العالم الآخر البعيد عن عالمهم المتخلف:
" شفت عرباين حديد .. واحدة مكبلة بالثانية ، وتجرهم الإمّاية ، تمشي بينهن على شعـرتين مثل الصراط المستقيم (...) وموهذي بس . غيرها أعجب منها عرباين صغار تمشي على كل طريق ولها عينين تضوي وتطفي . تشيل خمس ست أوادم ، تركض وتصيح بالك .. بالك “ (102) ،وفي إشارة ساذجة إلى تنبيه قومه على الطائرات .
يقول راضي :”طير كبير أكبر من الرخ ، صوته يهرج البلد “ (102) ولكن “ شيخ “ شهر بان القابع على صدور الناس،والذي كثيراً مايتفل في حلوقهم ، لم يكن يريد لأحد أن يصدق راضي فاتهمه بالكفر والجنون،وهذه إشارةواضحة إلى الدور الذي لعبه دعاة الفكـر الديني السلفي في العهد العثماني من تثبيط إرادة التحرر ، ونقض كل ما يمكن أن يؤدي إلى تحرير الناس الفكري ، وذلك على طريقة محاكم التفتيش الأوربية فالشيخ يأمر بجلد راضي حتى الموت،لأنه أصر على “كفره وجنونه “ .أما “العرباين الحديد “ التي كان راضي قد رآها ، فقد طوقت البلدة بعد انسحاب الحامية التركية ، ولفـظت من بطونها عساكر حمر الوجوه بينما “ انهرجت البلدة بطيور الرخ تملأ سماءنا وتمزق آذاننا بما يشبه الرعد” (104) . إن دور راضي الذي أراد أن يوقظ أهالي شهربان مهما للغاية ، فقد قاموا – وإن بعد فوات الأوان – ليحاسبوا شيخهم على تقصيره ، وخيانته ، وليتفرغوا بعد ذلك لمحاربة الانكليز .
سادساً ـ  في ذاكرة الوطن : إذاً ، لقد عاشت سميرة عزام مراحل النكبة الفلسطنية وقد تجلى ذلك في قصصها التي رافقت الفلسطيني في حنينه وبؤسه وغضبه وثورته وأمله ، وعلى الرغم مما سـبق ، وعـلى الرغـم من الشهـادات الكثـيرة التي تشهـد على إسهـام الكـاتبة في الـكتـابة للقضيـة الوطنيـة (105) التي هي بنـت نتائجهـا القـاسية ،
فإن بعض الظلم الذي حاق بالكاتبة إنما جاء من خلال محاولة نفر من النقاد إخراج كتابتها من حيز الكتابة الوطنية والتقليل من أهميتها ، زاعمين أن هذه الكاتبة لم تكتب عن فلسطين إلاّ النرز اليسير الذي يضعها في صف الذين أنكروا فلسطنيتهم ، ولم يكونوا مخلصين لها .
فالدكتور واصف كمال أبو الشباب ، يجرد سميرة أو يكاد من حسها الوطني ويقدم مسوغات كثيرة لطرح هذا الموقف . فعملها في الإعلام الغربي : “ المرتبط في هذه الفترة الأولى من النكبة بأجهزة إعلام أجنبية كان لها الدور الأول في تشريد الشعب الفلسطيني ، منعها إلى حد كبير من الالتفات إلى مأساة شعبها “ (106) وهذه الحجة أضعف من أن تثبت أمام المناقشة ، فربما يكون العمل في دائرة من هذا النمط أكثر دفعاً للكتابـة عن الوطن في ظل غربتين ، وإذا افترضنا جدلاً أن ملاحظة الدكتور أبو الشباب صحيحة ، فبماذا يعلل الدكتور احتواء مجموعة “ الساعة والإنسان “ ، والتي هي برأي الكثيرين ، أفضل مجموعات عزام ، على قصص فلسطينية أكثر حميمية ، على الرغم من أنها كتبت قصص هذه المجموعة ، بعد التحاقها مباشرة بمؤسسة فرانكلين للترجمة والنشر ؟ وكيف يسوغ الكاتب قوله ، الذي يتناقص مع قوله السابق : في بحثه ذاته : “لقد عانت الكاتبة سميرة عزام ، على ما يظهر ، كثيراً من كونها تحمل الجنسية الفلسطينية ، خلال عملها في إذاعة الشرق الأدنى ( …) فانعكست هذه المشكلة على نفسيتها ، وأصبحت تشعر بمدى الصعوبة والمعاناة القاسية خلال عملها في أقطار متعددة “ (107) . ويهاجم أبو الشباب الكاتبة لأن مجموعة الظل الكبير فيها “ تجاهل واضح للإنسـان الفلسطيني (….) ما عدا قصتين فقط “ (108) ولأن مجموعة الساعة والإنسان لا تحتوي سوى قصتين صغيرتين وحيدتين “ (109) .
ولعل من أبسط الأساسيات النقدية ألا يؤخذ موضوع معين في أثر ما أخذاً مساحياً أو حجميـاً ، فالمسألة مسـألة كتابية نوعـية ، ولا يتـرك أبو الشبـاب القصص التي تثبت “ فلسطينية ) سميرة عزام الحقة دون أن يهمشها ، ويهشمها ، مقدماً لها تقييمات لا تتخذ الطابع الموضوعي ، فهو يعلق مثلاً على قصة “فلسطيني “ (110) ، وهي قصة مرسومـة بفنية عالية كما سنرى فيما بعد ، بقوله : “جاءت أقرب ما تكون إلى خبرٍ مسلٍ طريف ينُشر في صحيفة يومية” (111) . وثمة اتهام آخر يسوقه أبو الشباب ، متسرعـاً فهو يبدي خشيته من أن تكون الوجدانيات الفلسطينية (112) التي تمثل نحو ستين صفحة من مجموعتها الأخيرة ، ليست من وضع سميرة عزام “ بل من صنع من أراد نشر مجموعاتها كي لا يقطع صلتها بفلسطينيتها “ (113) أما بالنسبة إلى الوجـدانيات فثمة دلائل تجزم أنها من كتابة سميرة ، كتقاطع الأسلوب وتقاطع الموضوعات (114)
-فهناك تقارب واضح بين قصة "مجنون الجرس" (115) والوجدانية رقم عشرين (116) وكذلـك بين قصة "عام آخر" ( 117)والمقطع العاشر من الوجدانيات( 118)وهذا يدل على أن المقطعين كانا مشروعين قصصين"أغلب الظن أنه لو أن العمرقد امتد بالكاتبة لتحولت معظم هذه الملاحظات[الوجدانيات]إلى قصـص خاصة وأن بعضها يحمل مقومات القصة"( 119) .
- وهناك الأسلوب ذاته ، والأفكار ذاتها ، وشجرة اللوز ، والبيادر وكثير من الكلمات التي هي من صميم المعجم القصصي للكاتبة ، ولا يمكن أن تتكرر في الوجدانيات ، من باب وقع الحافر على الحافر .
الوجدانيات عمل نثري جميل ، ولو استطاع الناشر أن يكتب مثله ، فما أعتقد أنه سيدّعيها لغيره إذ ما الذي يجبره على تقديم هذه المقاطع الجميلة إلى سميرة عزام ؟
- الأهم من ذلك كله أن أبو الشباب لا يقدم دليلاً واحداً يثبت بشكل قطعي أن الوجدانيات من وضع الناشر .
ولعل هذه الدلائل إضافة إلى ما كتبته سميرة وعرضناه في هذا الفصل يؤكد أن الكاتبة قد كانت مخلصة لقضيتها الوطنية ، واستحقت الدخول إلى ذاكرة الوطن …..تلك الذاكرة التي لا تعرف النسيان .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
( 93 ) نفسه ، ص ص 72 – 93 .
( 94 ) نفسه ، ص 83 .
(95) المصدر نفسه  ، ص ص 88 – 89 .
(96) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 27 – 40 .
(97) المصدر نفسه ، ص ص 63- 72.
(98) نفسه ، ص 72.
(99) نفسه  ، ص 71 .
(100) نفسه ص ص 95 – 103.
(101) نفسه ، ص ص 52 – 62.
(102) نفسه ، ص 58.
(103) – نفسه ، ص 59 .
(104)المصدر نفسه  ، ص 61.
(105)في هذا المجال ، يمكن الاستئناس بعدة شهادات :
-الكرمي عبد الكريم ( أبو سلمى ) : سميرة عزام ، مرجع سابق ص 42 حيث يقول : “ كان أغزر ينبوع  تستقي منه سميرة عزام هو شعبها ووطنها وقلبها “
-    نجم ، د . محمد يوسف : سميرة عزام والقصة ، مجلة الآداب ، بيروت ، العدد 1 ك 2 ، 1968 .ص – 38 حيث يقول : “ماصر القلم في يدها إلا وعينها على فلسطين ، وما حملها الخيال يوماً إلا ليحوم بها في أجواء الوطن الحبيب “
-    كما تمكن مراجعة :
-    فرج ،نبيل : سميرة عزام كاتبة فلسطينية لم تتحمل النكسة – مجلة الأديب ، بيروت ، ت2 ، 1976 ص ص 55 –56 .
(106) أبو الشباب ، د .واصف كمال : صورة الفلسطيني قي القصة الفلسطينية  المعاصرة ، مرجع سابق ، ص 75.
(107) المرجع نفسه ص 83.
(108) نفسه ، ص ص 75- 76 .
(109) نفسه ، ص ص 80 –93 .
(110) عزام ،سميرة : الساعة والانسان ،ص ص 83-93 .
(111) أبو الشباب ، د. واصف كمال : صورة الفلسطيني في القصة المعاصرة ، مرجع سابق ، 83.
(112) عزام سميرة : العيد من النافذة الغربية  ص ص 91 –142 .
(113) أبو الشباب ، د . واصف كمال : صورة الفلسطيني في القصة الفلسطينية المعاصرة ، مرجع سابق ، ص 84.
(114) لمزيد من الاطلاع على حتمية نسبة الوجدانيات إلى سميرة عزام تمكن مراجعة :
شاهين ، محمود : الحزن الدفين ، دراسة في أدب الكاتبة الفلسطينية الرائدة سميرة عزام بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيلها ، مرجع سابق ص ص 53- 54.
(115) – عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ،ص ص 105، 110 .
( 116) – عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ، ص ص 132- 133.
(117) – عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 67- 77.
(118) – عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ، ص ص 110- 111.
(119) أبو بكر ، وليد : أحزان في ربيع البرتقال ، دراسة في فن سميرة عزام القصصي ، مرجع سابق ، ص 74.

 

تعليق عبر الفيس بوك