النظام العالمي الجديد (2)

فوزي عمار *

 

أشرتُ في مقال سابق إلى مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المنطقة، والذي يقوم على حصار إيران وعدم الاعتراف بالاتفاق النووي الذي أبرم مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، كما أن الاتفاق مع الروس في الإبقاء على الرئيس السوري بشار الأسد يعدُّ جزءًا من مشروع ترامب الذي كان أحد أسباب الاصطدام مع تركيا مؤخرا.

قام مشروع أوباما في المنطقة على المُقاربة الأمريكية لتوطين الأفغان العرب في أوطانهم، بنصيحة من مؤسسة راند، والتي وصلت إلى نتيجة، وهي فشل مشروع محاربة التطرف الديني عسكريا؛ لذلك وجب تغيير المقاربة العسكرية إلى مقاربة سياسية يتم فيها توطين هؤلاء الشباب الذي تبنُّوا مشروع "الجهاد" ضد أمريكا، توطينهم في دولهم، أطلق عليها لاحقا الرئيس أوباما "الربيع العربي"، وكانت الفكرة تتماشي مع فكرة البريطاني جوناثون باول في حل المشكل مع الجيش الجمهوري الأيراندي الذي وصل بأعمال عنف إلى قلب لندن.

وقد قدَّم لها باول في كتابه "الحديث مع الإرهابيين"، فأصبح جزءًا منها، وتمَّ تعيينه لاحقا مبعوثا خاصا لليبيا في حكومة ديفيد كاميرون. كما أن الأساس النظري لمشروع أوباما قد بدأ مبكرا منذ صدور أطروحة فوكوياما، والإعلان عن نهاية النظام الدولي ثنائي القطبية وهزيمة الأيديولوجية الماركسية وانتصار الليبرالية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وتدشين النظام الدولي أحادي القطبية بأطروحات الحضارة المنتصرة، والصراع القادم هو مع الخطر الأخضر "الإسلام"، والأصفر الذي تمثله الكونفوشيوسية، على حد المزاعم الخاصة بهذا الشأن.

لهذا؛ يري البعض أنَّ أطروحة فوكوياما التي عدَّلها فيما بعد، وأطروحة صامويل هنتجتون المعنونة بـ"صراع الحضارات"، هما أهم أطروحتيْن شكَّلتا إستراتيجية وحركة وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. وكان يجب علي الأمريكان إيجاد من سيلعب دور المقاول الذي سيقود البقرة للثور الزراعي؛ فكانت واحدة من دول المنطقة الصغيرة متحفزة للعب هذا الدور للخروج من كوابيس العقد الداخلية، وكانت الآلية متمثلة في توظيف المال وسلاح الإعلام من خلال خلق هالة من الأكاذيب وتكرارها.

النموذج التركي طرحه الإنجليز؛ إذ إنَّ المطلوب الآن نموذج إسلام علماني منزوع الدسم، مشروع إسلاموي يحلل الخمر والربا، وردد كثيرا زعماء ذلك التيار أن تركيا اليوم دولة علمانية، في محاولة لاسترضاء الغرب خاصة الاتحاد الأوروبي للدخول لهذا النادي المسيحي المغلق.

كما اقترحت بريطانيا تصعيد جماعة الإخوان لقيادة هذا المشروع لسببين؛ أولا: لأن لهم مرشدا واحدا وعنوانا واضحا يمكن أن يكفي إشكالية التخاطب مع كل الدول على حدة. ثانيا أن مشروع الإخوان مرتبط بالإنجليز منذ تأسيسه.

ومن ثمَّ بدأت قوى إقليمية في فتح كل ملفات المنطقة من فلسطين؛ حيث دعم حماس، إلى حوار بين أطراف الصراع في دارفور بالسودان، ثم ملفات سوريا ولبنان واليمن، ودعم الإخوان في مصر وليبيا، وحزب النهضة في تونس في وقت واحد، وحتي موريتاتيا وبإمكانيات مالية ضخمة وكوادر بدائية لا تفقه الكثير من السياسية والعلاقات الدبلوماسية..

لقد كانت اللعبة خطيرة ومميتة؛ تمدَّدت القوى الإقليمية الصاعدة، وحملت علي أكتافها أضعاف ما تستطيع أن تنهض به.

لكنَّ الشارع المصري والليبي والتونسي، قاوم ذلك المخطط المريب، والمتمثل في تمكين الإخوان؛ كما فشل التكفيريون في السيطرة علي سوريا بفضل الدعم الروسي والإيراني وحزب الله للرئيس الأسد.

لقد تبدَّد الحلم الغربي بالتواطؤ مع القوى الإقليمية الصاعدة في السيطرة على هذه الدول، وأظهر فشل مشروع ترامب خيوط المؤامرة، فقد فَضَحت تسريبات البريد الإلكتروني لهيلاري كلنتون علاقة دولة بالمنطقة بدعم الإرهاب.

تركيا هي الأخرى أصبحتْ مشغولة بمشاكلها الداخلية بعد الانقلاب الفاشل الذي أحدث شرخا في المجتمع التركي، وإحباطا لدى الجيش والشرطة، اللذين ذاقا الويل من زعر حزب أردوغان.

القوى الإقليمية الصَّاعدة شعرت أنها تُركت وحيدة، وأن أموالا طائلة (تتحدث بعض التقارير عن مليارات من الدولارات) قد صرفتها في مشروع فاشل؛ وهي لم تستيقظ من هول الصدمة حتي هذه اللحظة. وكانت ردة فعلها تماما مثل ردة فعل الأفغان العرب بعد أن تركتهم أمريكا في العراء بعد الانتصار على الاتحاد السوفييتي، وأصبحت تطاردهم من بلد لآخر، فتحولوا إلى أعداء لأمريكا.

عامل آخر مخفيٌّ وراء ما يجري في منطقتنا هو ديون أمريكا التي وصلت إلى 20 تريليون دولار، والذي يتطلب إشعال حرب واستعادة عمل الماكينة الحربية لمكانتها في الاقتصاد الأمريكي الذي يقوم على ثلاثة أعمدة؛ هي: تقنية الحرب من علوم الفضاء والطيران والاتصالات، ثم النفط الذي أصبحت أمريكا دولة مصدرة له، ولم تعد في حاجة للحليف العربي، بل أصبحت منافسة له، وثالثا الإعلام والبروباجندا (الدعاية) الضخمة الموجهة لعقول الشباب، وكان آخرها مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) التي تم توظيفها لقلب أنظمة الحكم علي يد عدد ممن يُلقبون بالنشطاء. وهذا ينطبق على ما يسمي الجيل الرابع من الحروب وأدوات التدمير الذاتي.

وفي غمرة هذه الأحداث، اختلط البعد الجيوسياسي من حيث التخطيط والمساندة، إضافة إلى الدعم اللوجيستيي في مشروع أوباما، وكان لابد من ذريعة كما في كل مرة، فظهر "داعش"؛ وهو التنظيم الذي اجتمع علي تأسيسه خليط من التكفيريين مع الصهيونية العالمية مع قوى إقليمية، تستهدف في المقام الأول المنطقة العربية، بعد انتهاء مدة اتفاقية سايكس بيكو ووصولها لمائة عام في 2016.

لذا؛ كانت الدعوة لمستقبل جديد للمنطقة بدأت بغربة أمريكا في "فوضى خلاقة"، ولعبت بريطانيا دورا في مشروع أوباما بحكم معرفتها السابقة بالمنطقة، خاصة في البعد الإنثربولوجي.

وبعد أحداث عِدة، وتطورات قلبت الموازين، ظهرت مقاربة جديدة للحرب على الإرهاب تقودها دول في المنطقة تضرَّرت فعلا من الإرهاب؛ مثل السعودية ومصر والامارات.

وختاما نقول.. إنَّ السياسة لا تعترف بالصداقات الدائمة، أو العداوات الدائمة، بل بالمصالح، كما قال ونستن تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأشهر.

* كاتب ليبي

تعليق عبر الفيس بوك