حنا مينة.. في تلويحة الوداع


نور الدين ضرار - المغرب
شاعر ومترجم مغربي مقيم في أوروبا

لم يترك لنا شيخ الرواية العربية حنا مينة،  في تلويحة الوداع،  غير وصية ممتعضة بمواراة جثمانه في صمت وتكتم نكاية بالتجاهل الذي طاله.. ولم نظفر من حياته الحافلة بروائع محكياته الخالدة بغير "بقايا صور"  بالأسود والأبيض،  لكاتب عظيم عاش سنينه الأخيرة مغمورا بالنسيان والفقدان، بعد أن كرس كل حياته لنصرة البسطاء وتمثيل المثقفين الشرفاء..، ابن اللاذقية الألمعي، ونوتي مرساها البحري القديم الذي غادر المدرسة يافعا تحت طائلة العوز ليمتهن عددا من الحرف،  ويكابر قساوة طفولته العاثرة بهواية القراءة والكتابة،  إلى أن نشر أول نصوصه القصصية وهو مجرد صبي حلاق -كما تسعفني ذاكرتي المتقادمة عن سيرته الأدبية المعطاء -.. وبعدها تقوى طموحه في أن ينذر نفسه لصبيب إبداعي منتظم متواصل،  تمخضت عنه العديد من الأعمال السردية التي تعد اليوم من نفائس الرواية العربية.
عاش متواضعا بنكران ذات،  ومات ساخطا بكبرياء العظماء،  في زمن موسوم بكتابة أقرب في وضعها الثقافي وسياقها التاريخي لعربدات "عاهرة ونصف مجنون"  على سرير واحد متآكل في غرفة قاتمة،  تحت جنح ليال شتوية باردة،  ما من حركة فيها إلا لوقع ندف "الثلج يدخل من النافذة.
برحيله ترتسم أمامنا" نهاية رجل شجاع " علمنا تهيب الكتابة المؤسسة على النبوغ الإبداعي والبساطة المتمنعة،  بعيدا عن كل حذلقات الأقلام الجافة والنزوعات التجريبية الجوفاء،  ومعها تكتمل في مخيلتنا "مأساة ديمتريو"، عازف الكمان البئيس الممزق بين تجاذبات دواخله المتأزمة وإكراهات واقعه الملتبس.. وغيرها من التحف التي قوت مبكرا ولعنا بالقراءة وتطلعنا للكتابة،  وأثتت مراهقتنا بآفاق لا حد لها من رحابة الحلم وعشق الأدب،  كما فتحت أعيننا على طاقاتنا الكامنة وممكنات كينونتنا المبدعة.. وكأنه يوم نعيه بيننا "شمس في يوم غائم.
وبرحيله أيضا تنتهي حلقة نوابغنا من الروائيين الغائبين.. ثلاثية العظماء محفوظ، منيف،  مينة.. بزخم رصيدهم الكبير،  ومجد ملاحمهم الخالدة،  وألق ملامحهم المشكلة لأبهى أوجه منجزنا الروائي العربي في القرن العشرين،  عبر امتدادهم المهيب بلا منازع في قرننا الواحد والعشرين.

 

تعليق عبر الفيس بوك