عبد الله العليان
مرت قبل عدة أسابيع ذكرى 200 عام على ولادة الفيلسوف الألماني كارل ماركس عام 1818، ذلك الفيلسوف الذي لاقت نظريته شهرة اقتصادية كبيرة بعد كتابه الشهير "رأس المال"، ثم "البيان الشيوعي"، مع صديقه فريدريك إنجلز.
لكن كتاب رأس المال، يعد الفكرة الأساسية والنظرية الرئيسية للفلسفة المادية التاريخية، والتطور التاريخي لـ"المادية الجدلية" أو ما يعرف بـ"الديالكتيك"، والتي يقال إنّه استقاها من الفيلسوف الألماني الشهير فريدريش هيجل، وهو أحد الممثلين للفلسفة الغربية المثالية. وهذه الجدلية الهيجلية تتعلق بحركة العقل والفكر، وأحياناً الروح، والتناقضات التي تنتج الفكرة ونقيضها "تنازع الأضداد".. غير أنّ كارل ماركس اتجه بالديالكتيك إلى الجانب الاقتصادي ومبدأ التناقض والتناقض المضاد- للطبقات- وفق الصيرورة المتتابعة من خلال هذا الصراع وصولاً إلى المجتمع الشيوعي.
وأتذكر أننا وعينا- نحن الجيل العماني لعصر ما قبل النهضة- وبالأخص في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، أنّ الاتحاد السوفيتي -آنذاك- محط تقدير أغلبية الشعوب العربية لمواقفه من القضايا العربية كما نسمع، في فترة الحرب الباردة، خاصة قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، وكان الكثير من الشباب العربي، ومنهم بعض الشباب العماني، تأثروا بالفكر الماركسي، وكانت أعمارهم، لا تتجاوز العشرينيات من العمر، وعندما سافر البعض منهم إلى البلاد العربية، كانت الأفكار الماركسية رائجة، وسمعة المعسكر الاشتراكي كبيرة، من خلال دعمها لقوى التحرر الوطني- كما كانت تسمى آنذاك- فأحد الأصدقاء الذي أعرفه منذ الطفولة، أطلع على كتاب "رأس المال"، من أحد أصدقائه مع التنبيه عليه بعدم اطلاع أحد عليه، والكتاب لم يكن له أيضا بل كان لأحد أقاربه، الذي هرب في أواخر الستينيات من صلالة مع العديد من المجموعات، والتحق بالثورة الماركسية في جبال ظفار، وكان أحد القيادات بعد مؤتمر حمرين 1968، الذي أفرز ما يسمى بـ"الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي" فكان يحدثني وهو مبهور عمّا قاله كارل ماركس في فلسفته المادية، وعن الصراع مع القوى الرأسمالية، والحتمية التاريخية التي تنتهي بسيطرة القوى الكادحة على الملكية العامة لوسائل الإنتاج واندحار البرجوازية والإقطاع، بعد الصراع الطبقي، وتحقق الاشتراكية، ثم الانتهاء بالشيوعية، والوصول إلى الحتمية الموعودة وانتهاء الصراع والتناقض عند هذه المرحلة.
الحقيقة أنني خفت من هذا الانبهار، وهذا الإعجاب الذي أبداه هذا الصديق، وهو الخوف بأن لا ننجرف فكرياً؛ حيث إن حصيلتنا الفكرية صفر، تجاه رؤية فلسفية اقتصادية عميقة، ولم نكن نعرف شيئاً عن الفلسفات عموماً، كنا قد درسنا عند مدارس الكتاتيب في مدينة صلالة، في تعليم القرآن والفقه والتعبير، ثم المرحلة الابتدائية، وهي الوحيدة آنذاك، كان والدانا رحمهما الله تعالى ـ هو وأنا ـ لديهما مكتبات صغيرة في منزليهما، غالبية كتبها في الدين والفقه، وبعض كتب الأدب والشعر، وكنا نقرأ منها، لكن مع أخبار بعض الإعدامات في جبال ظفار، ووصول بعض الأخبار عن مهاجمة بعضهم للدين، ومهاجمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر باعتباره برجوازيا صغيرا وكان يعد زعيماً مقدراً ومحبوباً من ذلك الجيل، كلها جعلتنا أنا وزميلي، نأخذ موقفا سلبياً مخالفاً للرؤية الماركسية فيما فهمناه آنذاك. وكان عامل الدين هو المؤثر في هذا الأمر، دون أن نعرف كثيراً عن الفكرة الماركسية الفلسفية والصراع الطبقي، لكن بعدما وعينا قرأنا للماركسية منها، ومن منتقديها، مما جعلنا نخالف رؤيتها في الكثير من منطلقاتها الفكرية.
في الواقع أنّ كارل ماركس بلا شك صاغ فلسفته ومذهبه الاقتصادي الديالكتيك، وفق الواقع الذي عاشه في القرن التاسع عشر، وكانت الرأسمالية غاية في التوحش في استغلال العمال، وكان ماركس وأسرته عاشوا فترة فقر واضطهاد، التي تحولت من اليهودية إلى البروتستانتية، فأخذ ماركس رؤية حدية من الفكر الرأسمالي كما عاشها وضاق مرارة تلك المرحلة، كما أنّ نظرته للدين سلبية بسبب ممارسات بعض القساوسة كما تقول بعض الكتابات، سواء في فترة حياته في ألمانيا، أو بعد انتقاله إلى إنجلترا، ثم زياراته لبعض الدول الأوروبية، لكن الإشكالية أن كارل ماركس جعل فلسفته المادية الديالكتيكية حقيقة علمية مكتملة وحتمية، وغير قابلة للدحض والمراجعة، وليس كفكرة فلسفية، كسائر الفلسفات التي يأخذها منها ويرد.
ففي رؤيته لتفسير حركة التاريخ بالمادية التاريخية الجدلية، واعتماد صراع الطبقات ـ كما أشرنا آنفاً ـ وفق مبدأ التناقض داخل المجتمع الرأسمالي ووفق تطوره، باعتبارها المحرك الأساسي للصيرورة التاريخية من الأدنى إلى الأعلى، وليس كما رأى هيجل من أعلى إلى الأدنى، ثم تأتي المرحلة التالية، وهو كما تسميها المادية الدياليكتكية (نفي النفي)، أي أن كل مرحلة تالية تنفي المرحلة السابقة (الحتمية)، ومع استمرار التناقضات والصراع بين القوى البرجوازية المستغلة، والحركة العمالية (البروليتاريا)، وخلال الصراع تنتصر الأخيرة على القوى الرأسمالية، وتقام المرحلة الاشتراكية، تمهيداً لقيام المرحلة النهائية وهي انتهاء الديالكتيك عند هذه المرحلة، جنة البروليتاريا قيام (الشيوعية)، حيث تتوقف التناقضات، وينتهي الصراع بعد اجتثاث الرأسمالية المستغلة للطبقات المحرومة!
هذه الفلسفة لحركة التاريخ، انتقدها الكثيرون من حيث وصفها بالعلمية والحتمية التاريخية، التي لابد من انتصارها، وتلاشي النظم الرأسمالية، ومنهم من أنصار حتى الفلسفة الماركسية، من حيث نقد مقولتها التي اقتربت من الغيب في توقعاتها في قضية وصف هذه الفلسفة بالعلم أو كحقيقة مطلقة، لم يسبقها أحد في رؤيتها تجاه فلسفة تاريخ المجتمعات، ومن هؤلاء الذين انتقدوا بعض مناحي هذه الفلسفة، جورج لوكاش، ولويس ألتوسير، وانطونيو غرامشي، والهدف تصحيح بعض المقولات التي تخالف الواقع وتحولاته، ومن النقد الذي يوجه للرؤية الماركسية في المادية الديالكتيكية، أنها طرحت رؤيةـ كما تقول ـ علمية وحتمية، وأرادوا تعميمها على كل الشعوب والمجتمعات. وأنه لو صح أن مسألة الصيرورة علمية وحتمية تطورية في مسار الفلسفة الماركسية كما تقول، لما تتوقف عند المرحلة الشيوعية؟ لماذا لا يستمر التناقض، وصراع الأضداد، ونفي النفي، وتتوقف حركة التاريخ، وتتجّمد صيرورة التطورية؟
ومن النقد الذي وجه لهذه الفلسفة ما قاله المفكر المغربي الراحل الدكتور محمد عابد الجابري، وهو أحد قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي.. يقول الجابري في هذا النقد: إن التحليل "المادي" للتاريخ كما مارسه ماركس- دع عنك قوالب المادية التاريخية الستالينية- ليس "علماً" لتطور المجتمعات، بل هو تنظير "متحيز" يُمارس على الماضي الاقتصادي الاجتماعي- وأوروبا خاصة- والهدف منه لا الكشف عن "الحقيقة" كما هي، بل إبراز أو بناء "الحقائق" التي تزكي وتؤكد النتائج المستخلصة من الدراسة المشخصة للنظام القائم في "الحاضر"- أي حاضر ماركس. إذن يجب ألا ننتظر منها أن تنطبق على التاريخ العربي أو على أي تاريخ آخر انطباق التحليل العلمي على موضوعه.
وهناك العديد من الآراء النقدية حول هذه الفلسفة.. وللحديث بقية.