د. سيف المعمري
حين يتحدَّث عالم اليوم عن المجتمع المدني، فإنه يعكسُ بذلك عامليْن على قَدْر كبير من الأهمية؛ الأول: هو تطور المجتمع مُقارنة بالمجتمعات الإنسانية، وفاعليته في تفعيل حق التنظيم الذي يتيح العمل على بناء جماعات تعمل جنبًا إلى جنب مع الدولة على النهوض بالمجتمع؛ بما يقضي على الأحادية في القرارات التي ينتج منها العديد من النتائج السلبية على المجتمع والدولة على حد سواء، أما العامل الثاني فهو يرتبط بحداثة الدولة وتحولها إلى دولة مؤسسات تقدم بيئة تشريعية تسمح بقيام منظمات المجتمع المدني بحرية وسلاسة، مما يكفل ممارسة المواطنة بفاعلية تقود إلى تنمية مستدامة يحافظ فيها على جودة الحقوق، وجودة القرارات، وتصان فيها الأموال العامة من أي إسراف أو تبذير أو فساد، ويدافع عن غاية القانون في توفير الرخاء العام الذي يكفل السلم الأهلي، ويُساعد على انطلاق الجميع للعمل في المكينة الوطنية حسب الأدوار التي يشرعها القانون؛ فلا تغل يد المجتمع المدني، ولا تطلق يد مؤسسات الدولة لتفعل ما تشاء دون شراكة مع منظمات المجتمع.
لكنَّ المتتبِّع لوضع ما يُسمى بـ"المجتمع المدني" مَعنَا، يجدُ أنه يمر بحالة هزال مخيفة جدا، خاصة في هذه الفترة التي تطورت فيها الدولة، ويفترض أن يكون الوعي قد ارتفع لدى المواطنين ومتخذي القرار، وفي الفترة التي تشهد تحديات تنموية كبيرة تطلب وجود شريك حقيقي للحكومة وهو المجتمع المدني، ولكن الأصل في الشراكة هو أن يكون الشركاء في مستويات متقاربة من القوة والمهنية إن لم يكونوا على مستوى المستوى، لكن ماذا لو كان أحدهما ضعيفا جدا، ولا يعمل بجد كبير من أن أجل التغلب على ضعفه؟ هل يُمكن الاعتراف به شريكاً؟ هذا سؤال لابد أن يُطرح بموضوعية في حالة ما يُسمَّى بالمجتمع المدني العُماني الذي لا يتقدم مع تقدم كل شيء إلى الأمام في البلد، لكنه يتراجع لأن الواقف حين يتقدم الآخرون يعد متراجعا، وهذا ما يلاحظ على وضع الجمعيات البسيطة التي تعمل في البلد حاليا.
لقد قُمت بتتبُّع أخبار جمعيات المجتمع المدني في إحدى الصحف المحلية خلال شهر يوليو، والذي عادة يشهد نشاطا من قبل كثير من المؤسسات للقيام بتقديم أنشطة صيفية لطلاب المدارس وشباب الجامعات، بُغية استثمار قدراتهم ودافعيتهم لمزيد من التعلم، ولتطوير مهاراتهم، ولتوظيفها لخدمة بعض المشاريع في المجتمع المدني، وظهر من هذا التتبُّع محدودية الأنشطة التي قدمتها هذه الجمعيات؛ مما يشير إلى ضَعْف الفاعلية، وغياب الخطط المستدامة المتربطة باحتياجات المجتمع، وكل ما يجري هو أنشطة متقطعة جدا خلال السنة يحاول بعض مها إثبات أنه لا يزال حيًّا ولم يَمُت، وإن كان هذا هو الهدف فنحن أمام إشكال كبير، ولابد من طرحه للدراسة العلمية للعمل على تحريك المياه الراكدة، وتفعيل دور هذه الجمعيات؛ لأنها في النهاية محسوبة على المجتمع ومحسوبة على البلد.
تحتاجُ مُؤسسات المجتمع المدني إلى دراسة علمية جادة للكشف عن الواقع الذي تعيشه؛ من أجل الانطلاق من التحديات التي تواجهها لإطلاق خطة لتطويرها؛ حتى يستفيد المجتمع منها، وتقوى الدولة بها، ومن الجوانب التي يمكن التركيز عليها في هذه الدراسة: دراسة البيئة القانونية التي تحكم هذا القطاع، وما إذا كانت محفزة أم معيقة من حيث التسجيل، وتسهيل العمل، والتمويل ومتطلبات تطوير هذه البيئة في هذه الفترة، كذلك لابد من النظر إلى القدرة التنظيمية ومدى توافر تخطيط طويل المدى، وقدرات وخبرات من قادة هذه الجمعيات، ومدى فاعلية مجالس الإدارات وقدرتها على توزيع المسؤوليات لممارسة الإدارة الديمقراطية، بدلا من الإدارة التسلطية الاستحواذية على الجمعية ومقدراتها. ومعيار آخر لابد من دراسته وهو السلامة المالية، وتعني قدرة الجمعيات على الحصول على تمويل لممارسة أنشطتها وبناء قدراتها. وعامل رابع يُمكن التركيز عليه وهو عامل المناصرة للقضايا التنموية والعمل على الاقتراح العلمي الجاد أو الضغط لإحداث تغييرات متعلقة بتحسين حقوق المواطنين والخدمات المقدمة لهم، والتشريعات التي تؤطر كل ذلك، هل الجمعيات لها مواقف من القضايا التي تتقاطع مع مهامها؟ هل عبرت عن مواقف أو عملت على إجراء دراسات قدمتها للحكومة، بدلا من التفرج والصمت وكأن هذا القطاع قطاع دخيل يعيش على أرض لا يعنيه ما يجري فيها من تفاعلات وتطورات وصعوبات وتحديات؟ والعامل الخامس هو دراسة الخدمات التي تقدمها هذه الجمعيات: هل تتوافق مع احتياجات المجتمع؟ ما عددها؟ وما نوعيتها؟ ما الأثر المستدام الذي تتركه، وأين تقدم؟ هل في المقر الرئيسي بالعاصمة، أم تتوزع في مختلف أرجاء عُمان؟ والعامل السادس هو البنية الأساسية التي تتمتع بها هذه الجمعيات: ما نوعها؟ وهل توظف بشكل جيد من قبلها لتنفيذ أهدافها؟
لا شك أنَّ دراسة تلك الجوانب المتعلقة بالمجتمع المدني في السلطنة، سيكشف عن معطيات مهمة جدا يمكن أن توظف في إعداد رؤية استراتيجية لتطوير المجتمع المدني وفاعليته، يمكن أن تتواكب مع رؤية عمن 2040، فلا يمكن أن تخطط قطاعات معينة بالدولة في حين تظل قطاعات أخرى رغم واقعها الصعب تتفرج، دون أن تأخذ خطوة نحو الأمام، ودون أن تبادر بشكل تعاوني في إعداد رؤية للمستقبل، فغياب الرؤية يعني غياب الاستدامة عن هذه الجمعيات التي ستظل مجرد أرقام تتزايد ببطء، وتستقطب أموالًا من الحكومة، وأموالًا من الشركات التي تعبر عن المسؤولية الاجتماعية، لكن دون فاعلية حقيقية لبناء مجتمع مدني بكوادر متدربة لديها الخبرة في العمل المدني، بدلا من أن تختزله في إقامه المحاضرات البسيطة من فترة لأخرى، والسفر هنا وهناك لملء الكراسي المخصصة للبلد دون أن تقدم في تلك المحافل تجربة متفردة لعمان كالتجارب التي تقدم في مجال السياسة الخارجية أو في تعزيز التسامح الديني والوئام الإنساني، أليس هذا حقًّا للمجتمع والبلد على هذا القطاع؟ أليس التطور مطلبا من مطالب الحياة؟ فلماذا لا ينظر القائمون على هذا القطاع وقادة جمعياته لأبعد من وقع أقدامهم، والمساحة التي تشغلها الكراسي التي يتصارعون عليها؟!!!!