د. عبدالله باحجاج
هل سنُودع في عام 2019، دولة الرعاية التي أطَّرت وأسست مرحلتنا الوطنية منذ عام 1970؟ وهل سينطلق منه- أي 2019- المفهوم الجديد للدولة.. دولة الجبايات؟
يُشكل هذان التساؤلان أهم انشغالاتنا الراهنة، وستزداد تصاعدا كلما نقترب من توديع العام الحالي 2018، ونستقبل العام الجديد، ولماذا هذا القلق؟ وما هي دواعيه؟
لأنه يحضر لعام 2019، ولادة تحولين هامين جدًا، يشكلان عمود دولة الجبايات، وسينقلان الدولة عامة، والمجتمع خاصة، شكلاً ومضمونًا، من مفهوم دولة تنفق على الخدمات بالمجان إلى دولة تفرض رسوم عليها، ومن دولة تمول ميزانيتها السنوية من موارد عمومية كالنفط والغاز إلى دولة تفرض ضرائب على المجتمع من أجل الموازنة، الأولى تسمى بدولة الرعاية، والثانية تسمى بدولة الجباية، ومن خلال تحديد مضامين المفهومين، تتضح لنا ماهيات التحولين، وفي الوقت نفسه تظهر للوعي العام الأسباب التي تجعل من طرح هذا الموضوع أولية زمنية عاجلة، حتى لا ندخل في ظرفيات اجتماعية ضاغطة. ومن هذا المنطلق الوطني، نرى إشكالية كبرى في تزامن تطبيق ضريبة القيمة المضافة مع تطبيق المنظومة المُتكاملة والشاملة لرسوم البلديات في عام 2019.
ولو كنَّا صريحين مع المرحلة لدواعي المصلحة الوطنية نفسها، فيمكن القول إنَّ إعادة النظر في تطبيق الضريبة نفسها قد أصبح الآن من الأولويات الوطنية، لدواعي كثيرة أبرزها، انتفاء الأسباب الضاغطة على الدولة من جراء خفض الإيرادات النفطية نتيجة الأزمة النفطية التي اندلعت في منتصف عام 2014، فأسعار النفط وصلت الآن إلى مستوى 75 دولارًا للبرميل بعد ما كانت 30 دولارا.. تأملوا في الفارق السعري الكبير، فالسبب الذي كان يقف وراء التفكير إلى الضرائب والرسوم قد زال، وبالتالي المنطق يقول إنه بزوال السبب يبطل كل ما يترتب عليه، وهذا لا يعني أن نظل نراهن على النفط والغاز كالسابق، أبدا، وإنما يعني أننا في مرحلة يعتبر تشديد الخناق الاجتماعي خط أحمر في ضوء تحديات داخلية وجيوسياسية، وفي المُقابل، يعني أن نرفع الاهتمام ونحدث أطر المساءلة والمحاسبة والمراقبة والفاعلية في تنفيذ إستراتيجية التنويع الاقتصادي خاصة في الخمس قطاعات اقتصادية التي حددتها الرؤية 2040، ويعني في المقابل ضخ عقول جديدة تكنوقراطية ذات حس سياسي عالٍ ليس لديها أجندات أو مصالح نفعية خاصة، لتنفيذ الإستراتيجيات، وهذه قد أصبحت من الحتميات التي لا تؤجل، وتأجلها سيضر بالمسار التنفيذي للخطط الاستراتيجية في بلادنا. والمرحلة نفسها تحتم القول كذلك، إن تطبيق الرسوم البلدية في صيغها الراهنة قبل الكشف عن مُراجعتها النهائية، هي كذلك خط أحمر، لماذا لأنها تمس المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي لم تقف على قدميها بصورة كاملة حتى الآن، ولأنها – أي الرسوم – لم تفرق بين الأنشطة التجارية الربحية وغير الربحية. مثالنا هنا، مهن تربية الإبل وبقية الحيوانات الأخرى، فهذه أنشطة وراءها ثقافة خاصة؛ حيث يعتبرها المربي ضمن منظومته السيكولوجية الخاصة جدًا، ويكون بينهما دائماً من الود المتبادل ما يجعل المربي يتردد كثيرًا في البيع أو الذبح، والكثير منهم – إن لم يكن جميعهم – لا يتعاملون مع الحيوان كنشاط تجاري وإنما ضمن نشاط متوارث، فأين الحكمة من فرض رسوم سنوية على هذا النشاط؟ وهل فتحنا نافذة تاريخية لاستيعاب الإكراهات الناجمة عن مثل هذه الرسوم؟
مثل تلكم الخطوط الحمر، يجعلنا نصل الآن إلى تخيل أو تصور تزامن تطبيق الضريبة والرسوم في آن واحد أو حتى في مراحل مختلفة خلال عام 2019؟ وهنا منطقة وعي علينا أن نرفع من منسوبها قليلاً، فالضريبة المضافة ستفرض بنسبة (%5) على السلع والخدمات، فكم سيتم تحصليها من المستهلك النهائي؟ وهذه أعباء مالية جديدة من المؤكد أن المستهلك/ المواطن سيشعر بثقلها سريعاً، أما رسوم البلديات فهي مختلفة ومتصاعدة، لكنها تشمل كل الأنشطة المهنية والتجارية والاقتصادية، فمثلاً الرسوم البلدية على الأنشطة الزراعية وصيد الأسماك، عددها (40) نشاطًا، وأنشطة التعدين واستغلال المحاجر (14) نشاطًا، والصناعات التحويلية (195) نشاطا، ونشاط إمدادات المياه، وأنشطة الصرف الصحي وإدارة النفايات ومعالجتها وتضمن(14) نشاطاً، ونشاط التشييد وتضمن (21) نشاطا، ونشاط تجارة الجملة والتجزئة، وإصلاح المركبات ذات المحركات والدراجات النارية وتضمن (92) نشاطا ونشاط النقل والتخزين (24) نشاطا، وأنشطة الإقامة والخدمات الغذائية (17) نشاطا، ونشاط المطاعم (37) نشاطا، ونشاط المعلومات والاتصالات (28) نشاطا، والأنشطة المالية وأنشطة التأمين (18) نشاطا، والأنشطة العقارية (2) نشاطين. والقائمة لاتزال طويلة وعريضة، والمتأمل فيها، وفي رسومها السنوية الجديدة المرتفعة، سيلاحظ أنها تشكل إيرادات جبائية للبلدية معتبرة، لكنها مثقلة على المجتمع سواء بصورة مباشرة أو غير مُباشرة.
نراهن كثيرا على حكمتنا السياسية في إدارة ملفات مرحلة التحديات الكبرى، وما تأجيل تطبيق ضريبة القيمة المضافة من بداية عام 2019 إلى ربعه الأخير، سوى مؤشر على الاحتكام أخيرا لعقلانية الدولة، فهل هذا يعني عودة القرار السياسي والحد من طغيان البرغماتية المالية في إدارة التحولات الاقتصادية في بلادنا؟ في هذا الجنوح (المهني) قد تم دون دراسة انعكاسات تزامن تطبيق الضريبة والرسوم على المجتمع لأنها كانت تتم صناعتها في غرف مغلقة ينعدم فيها التنسيق ودراسة الانعكاسات، ولو سلمنا للعقل المالي إدارة المرحلة كاملة، سيقودنا إلى احتقانات اجتماعية، بدليل تفكيره في تطبيق الضريبة والرسوم في شهر يناير المقبل بصورة متزامنة، وهو بذلك كاد أن يقودنا إلى نهاية دولة الرعاية والانتقال إلى دولة الجبايات في شهر واحد، وهذا كله يدلل مما لا يدع مجالاً للشك، على ضرورة الإدارة السياسية للملفات الاقتصادية والمالية التي لها انعكاسات على التوازنات الاجتماعية وبنية الأسرة العمانية مباشرة في ظل حالة الجمود في المرتبات وزيادة الأعباء عليها أي المرتبات سواء نتيجة الضرائب والرسوم القديمة والجديدة أو وجود باحثين عن عمل في كل أسرة، وهذه معطيات لا يمكن لرجل الدولة أن يتجاهلها ويقفز فوقها، لذلك نؤكد يقيناً أنَّها قد أصبحت تحظى بقمة الاهتمام السياسي، وتأجيلها تطبيق الضريبة أحد مؤشراتها الأساسية.
بل إن استشرافاتنا تذهب بنا إلى احتمالية الإلغاء تماما للسبب الاجتماعي الملح، وكذلك في ضوء انعكاسات ضريبة القيمة المضافة السلبية في بعض دول الجوار التي سبقتنا في تطبيقها، وتفكيرها الآن في التراجع عنها لأضرارها الاقتصادية والاجتماعية في دول الجوار، والأهم هنا الذي نركز عليه، انتفاء الدواعي والمسوغات التي كانت تقف وراء تبني مثل هذه الضريبة، وهي نقص الإيرادات النفطية، والآن قد عادت الأسعار إلى مرحلة فوق الاطمئنان، فلماذا يظل الإصرار على تطبيق ضريبة الكل يعلم أنها ستقلب الأوضاع الاجتماعية رأسًا على عقب، والعلم المعرفي قد أصبح الآن يدرك خطورتها على بيئات الدول الاقتصادية والاستثمارية؟ لدينا يقين أن استمرار ارتفاع الأسعار النفطية ستحول دون تطبيق هذه الضريبة في بلادنا، للدواعي سالفة الذكر، وتأجيلها كبرى المؤشر، ويلزمنا في المُقابل تسريع تنفيذ برامج التنويع الاقتصادي، ولن يتأتى لنا ذلك إلا من خلال فريق جديد يتحمل مسؤولية هذا الملف بالمواصفات والشروط التي حددناها سابقًا، فبلادنا غنية بمواردها الطبيعية وبمقومات موقعها الجيواستراتيجي.. وتتيح لبلادنا الأسعار النفطية الفرصة مجددًا في إحداث التحول التاريخي، فهل نفوته مجددًا ونصر على تشديد الخناق الاجتماعي، وكلنا نعلم مالاته؟ هذه دعوة لمراجعة شاملة مستقلة من قبل عقول الدولة، لكل الخطط وسياساتها المالية والاقتصادية التي وضعت منذ منتصف عام 2014، من منظور مسوغات تأجيل ضريبة القيمة المضافة وحتميات إلغائها، والتفاؤل في مستقبل اقتصادنا بعقول تستثمر المقومات ببرامج عاجلة تُعيد التوازن لدور الدولة بدلاً من جنوحه أما دولة الرعاية أو دولة الجبايات في مُجتمع لا يُمكن أن يستغني تماماً عن الحكومة التي تدير مقوماته الاقتصادية.