يمكن أن نعيش معا

 

عبدالرزاق بن علي

يعتقد البعض أنَّ انتماءاتهم السياسية أو الطبقية أو المذهبية هي البوصلة الأساسية والوحيدة التي تُحدد علاقاتهم الإنسانية والشخصية وتفرض عليهم معاداة هذا وصحبة ذاك. وغالباً ما يذهب هؤلاء بعيدا فيتخذون من مواقفهم أحزمة ناسفة لكل القيم الأصيلة والجميلة الرحبة في العلاقات الإنسانية التي يقوم عليها العمران البشري. في حين أن رحمة الله في الاختلاف والتنوع واسعة وكبيرة وذات دلالة عميقة. ولنا في رسول الله أسوة حسنة. فقد عفا عن رجال أرادوا قتله.

وعفا عن أشد الناس عداوة له حين فتح مكة. كما آخى بين الأنصار والمُهاجرين ليتقاسموا الرغيف وأعباء الحياة. وحرَّر العبيد وجعل نصيبا للفقراء من مال الأغنياء. وأقام قواعد للتعايش المدني بين المسلمين واليهود في المدينة عملا بقول الله تعالى في محكم تنزيله "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" وبقوله أيضًا " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ".

فأغلب المحن التي نشهدها تستمد جذورها من هذا التعصب والتحجر الذي نُعانيه ولا نزال نتحمل نتائجه منذ قرون. وجميع المآسي التي حدثت في تاريخنا العربي والإسلامي، وكل الدماء التي سفكت، والثكالى واليتامى والمشردين والمهجرين عبر التاريخ، كانوا من رحم هذا التشدد، والانغلاق الذي عرفناه، كما عرفته أمم غيرنا في مسيرة الإنسانية التي لا تزال ترفض الاعتراف بقيمها النبيلة التي من أجلها خلق الإنسان على وجه الأرض .

ولا نزال في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي نعيش كل أشكال هذا الانغلاق والتحجر المذهبي والسياسي والطبقي في أشد صوره قتامة وبؤسا. فكم من حروب وفظائع وجرائم ارتكبت باسم المذهبية أو بين الأحزاب السياسية في صراعها على الحكم، أو بين الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون والأغنياء الذين استأثروا بأرزاق غيرهم بمسميات مختلفة وبطرق كثيرة، دون اعتبار وتغليب لمبادئ العدل والمساواة والتعايش المشترك بين خلق الله قدرنا أن نعيش معًا ولا مناص لنا من إيجاد قواعد لهذا التعايش في هذه التناقضات التي أوجدناها بأنفسنا، وألقينا على شماعتها جميع مآسينا، دون أن نفكر بما تتطلبه إنسانيتنا من أخلاق وقيم. وإن لم نفعل فسيأكل بعضنا بعضا كما يحدث بين البهائم في الأدغال والغابات. لأننا نحن كبشر من أوجد هذه التناقضات في حياتنا ولم يفرضها علينا أحد. ونحن من بررنا مآسينا بدواعي هذه الاختلافات والانتماءات وما هي في الحقيقة إلا أدوات تمكننا من الاستئثار بالسلطة أو المال أو التحكم في مصائر خلق الله وأرزاقهم .

وقدرنا أيضاً أن نرفع أعمدة الخيمة التي تجمعنا من أجل هذه الحياة الأخوية العادلة المشتركة أو أن نشترك في هد أركانها على رؤوسنا جميعاً ولن يكون هناك متسع من الوقت أو فرصة لندرك أن تعصبنا وأنانيتنا وتطرفنا دفعونا لهذه النهاية البائسة التي أبادت حضارات سابقة في تاريخ الإنسانية القريب والبعيد.

ولا مناص أيضًا من أن نفكك أحزمتنا الناسفة التي تمثلها قناعاتنا الخاطئة والتي تقوض كل إمكانيات وفرص العيش القويم والكريم بيننا. لأنَّ اختلافاتنا السياسية والمذهبية والطبقية يمكن أن نجد لها حلولا في منظومة من الأعراف والقواعد والقيم الإنسانية الصائبة والسليمة التي تمكننا من تجاوز شرائع الغاب وإقامة مجتمع السلم والتآخي والتآزر والعدل والكفاية.

دون هذا الخيار الوحيد أمامنا لن نستطيع أن نتجاوز حالة التخلف والترهل الذي نعيشه وأن نلتحق بالأمم والشعوب التي سبقتنا في الأخذ بأسباب التقدم والتحضر الذي يهفو إليه كل مجتمع إنساني. فمن الخزي أن يكون المشردون في الوطن العربي نتيجة الحروب السياسية والمذهبية والاقتصادية بهذا العدد الذي يسر العدو. ومن العار أن يكون الفقراء في الوطن العربي السواد الأعظم من الناس رغم كل الثروات الضخمة التي نستغلها والتي لا تزال مهملة. ومن البؤس ألا تتفق قيادتنا السياسية على الحد الأدنى من المسؤولية المشتركة في إقامة مجتمع عربي يمنح للمواطن العربي الحق في حياة إنسانية خالية من الفتن والدماء والحروب.

تعليق عبر الفيس بوك