مقاومة وبيـــــان


يوسف شرقاوي - دمشق


لم نعتقد يوماً أنّ الحياة متجهة صوب ما نراه اليوم، منذ نشأة الخليقة، وقبل أن تختل موازين الكون، منذ كان الفلاح القروي رغم شقائه ينعم بالأرض مهما ولّدتْ له من ألم وظلم، كان يرتبط بالأرض ارتباطاً لا فكاك منه ولا وسيلة لهذا إلا الموت، وكان رغم تعاسة حظه ونصيبه القليل من الأرض، أول من يبذل روحه فداءً لها، مقبلاً غير مدبر، والآن في الألفية الثالثة لا ندرك حقيقة الأمر!
ألف جهة وفئة حاولوا احتلال الأرض، البلد المقدّس، ولم يكن لهم سوى أن رُدّوا على أعقابهم خاسئين، ثم اختلف الزمان، والكل يعرف هذا، وكان الانتداب البريطاني بعد بلفور وسان ريمو، ولا داعي لذكر التاريخ القبيح أوالكتب السوداء، كانت المقاومة المسلحة هي الجدوى الوحيدة، وقد لقت بريطانيا هزائمَ لا تعد من كافة الفئات الفلسطينية، أو من العرب الذين دخلوا فلسطين آنذاك وشاركوا بالثورة الكبرى، وكيف انتهت الثورة الكبرى؟ ببيان صفيق! وانتهى الإضراب الذي استمر ستة شهور وكان الأول من نوعه في البلاد كلها، أما الذين قاوموا بالسلاح لم يكونوا أنفسهم من يتحكمون بزمام الأمور على الجانب السياسي، وصدر البيان بأن يوقفوا الثورة، والكل يعرف من أصدره، ثم خمدت الثورة وكانت الحرب العالمية الثانية التي طغت على كل شيء ذلك الوقت، ولم تعد القضية الفلسطينية محور اهتمام العرب حتى الفلسطينيين أنفسهم، فقد انقلبت المقاييس وتم التصنيف بناءً على أمرين:
- شخصٌ مسرفٌ في التفاؤل.
- شخصٌ مسرفٌ في التشاؤم.
وكانت المواقف متعارضة آنذاك بين نصير لألمانيا وعدو لها، بينما كان المشروع الصهيوني ما يزال قيد التخطيط والتنفيذ، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وفقدت بريطانيا قوتها الجمة فكان لا بد لها أن تلقي بهذا الحمل - بعد أن حققت المشروع ونفذت وعدها - وألقت بحملها وسلمت الأمر لهيئة الأمم المتحدة وحددت موعداً لمغادرتها الأراضي الفلسطينية: ١٥ أيار ١٩٤٧.
قبل مغادرتها بشهر، أي بعد قرار التقسيم، شاركت بالحرب مع العصابات الصهيونية، وبدأت العصابات تحتل قدر ما استطاعت من الأراضي والبلدات والمدن، وأيضاً كان التصنيف بناءً على أمرين:
-    مسرفٌ في التفاؤل لقدوم جيش الإنقاذ.
-    مسرف في التشاؤم إثر عدم وصول السلاح من اللجنة العربية العليا التي شكلتها جامعة الدول العربية.
وانسحبت بريطانيا، وكان الأهالي الفلسطينيون قد خرجوا من ديارهم في بعض القرى والمدن مثل يافا وحيفا، وكان المثال على مصير القرى: مجزرة دير ياسين.
المسرف في التفاؤل فارق دياره تحت شعار: "يومين وراجعين" أما الآخر فقد كان على تمام العلم أنه مفارقها أبداً، دخل جيش الإنقاذ وخرج، ببيان آخر مثل الذي أوقف الفلسطينية الكبرى، وكان الشعار الأخير: "ماكو أوامر" وكانت النكبة.
هذا موجز صغير لمجريات الأحداث الرئيسية القديمة في تاريخ القضية الفلسطينية حتى النكبة، بعد ذلك حُصرت القضية في الجانب السياسي وظلت على هذا النحو فترةً ليست بقصيرة من الزمن، والعاقل وحده يدري أن لا سبيل سوى السلاح، فكان من أدرك الحقيقة يقوم بالعمليات وحده ويحارب وحده إلى يومنا هذا، وكانت الانتفاضة الأولى والثانية، وكل شيء يعيد التذكير بالثورة الكبرى والأغنية التي تتكرر دائماً: "يا ابن المكرودة، بيع أمك واشتري بارودة".
وصارت القضية ألف قضية، كلما ظهرت واحدة بانت أخرى، إلى يومنا هذا، وكانت أوسلو التي أسقطت ٧٨% من التراب الفلسطيني، وأيضاً كانت المقاومة المسلحة والسياسة كل على حدة، وبدأت الانقسامات حتى ضمن الفصائل الفلسطينية نفسها _ وما تزال قائمة _ فوق اختلال الموازين كلها.
ولم يعد حق العودة شعاراً أساسياً على لسان كل حكومة وكل لاجئ، خلاف الأمر الذي اعتدناه منذ وعينا، نحن أهل الشتات.
صارت غزة قضية منفصلة، والقدس غربية وشرقية والضفة كذلك الأمر، فسئم المدرك للحقيقة وعاد - مثلما اعتدناه منذ الأزل - يحارب وحده ويستشهد، لم يعد الكفاح المسلح مشروعاً، وصار للسلام - بين الرقبة وسيفها - مشاريعاً.
أي جني هو هذا؟ صار الناس يتذكرون التواريخ حين تأتي كل عام في نفس موعدها:
التقسيم، النكبة، النكسة، احتلال المنطقة،.... إلخ.
وصرنا نحتار عن أي قضية نحكي! اختلت موازين الأرض مرة أخرى حتى صارت القضية مشتتة كل هذا التشتت، أما المخيم في اللجوء فهو الحد الفاصل بين زمنين، وبندقية لجد الجد ما تزال تسكنه، إذن، السبيل الوحيد موجود في كل صوب وما علينا إلا إدراكه، رغم أنف القريب والبعيد، من معنا ومن علينا، دون بيان جديد، لأنها لا بد أن تكون "قضية العرب".

 

تعليق عبر الفيس بوك