شجرة التوت


فاطمة بشير - ليبيا


ترتدي فراشيتها البيضاء المائلة للأصفر، اصفرار أضافته هيبة الزمن وفرط الاستخدام، الفراشية اليتيمة التي لا تملك سواها، أهداها لها زوجها عند ولادتها لطفلها البكر أحمد.  ترتديها بسرعة الضوء بيدين مرتعشتين وقلب اختلط نبضه برهبة لذيذة، بخوف جميل، دموع فرح تشوه خديها المجعدين، تجاعيد لم تزدها إلا وقارا، تسرع كي لا تفوتها السيارة، فالسائق كان على عجلة من أمره، ستذهب لرؤية أحمد اليوم، أحمد الذي انقطعت أخباره منذ ستة أشهر، ستة أشهر كافية لتحرق قلبها شوقا عليه، أحمد جندي اختارته الحرب دونا عن كل أنداده ليكون جزء منها.
في البرقية التي وصلت لمنزلهم اليوم رفقة أحد أصدقاء أحمد، كان مفادها أن أبنها وقع جريحا في مباغتة شنتها قوات العدو ليلة البارحة على الموقع الذي يتواجد فيه دائما وكان قد نقل لمستشفى العاصمة لتلقي العلاج. هكذا زف عمي مصطفى "زوجها" لها الخبر، سجدت لله شاكرة أنه لم يمت، تمتمت بذات الدعاء "طلبتك يا مولاي ما تردنيش خايبة نجّي وليدي حميدة".
في كل مرة كان هذا الدعاء يقف كحارس يفصل الموت عن أحمد لكنه جاء متأخراً هذه المرة.
عمتي هنية، سيدة في الخامسة والسبعين خريفا من عمرها، تسكن في المنزل المجاور لمنزلنا منذ عقود، تزوجت متأخرة  بعد أن أتمت واجبها كأم عذراء ﻷخوتها الأربعة، من على ماكينة خياطتها الصغيرة كانت تدرّس هذا وتطعم ذاك، إلى أن وصل قطار زواجها متأخرا بعض الشيء، وكأن الأمومة تأبى أن تفارقها، رزقت بأحمد وياسين وليلى بعد أن أتمت عامها الخامس والأربعين على غير عادة أغلب نساء جيلها. أم برائحة جدة هكذا أطلت داخل حيينا، ولدت أنا في نفس العام الذي ولد فيه أحمد كنت الطفلة الخامسة لوالدي ولم يرزقا بأطفال بعدي، تربيت وأحمد سوية إلى أن التحق بالكلية العسكرية في عامه الثامن عشر وبقيت رفقة عمتي هنية أزورها يوميا تعلمني الخياطة وأحادثها عن ذكرياتي مع أحمد، نتسلى إلى أن تغرب شمس النهار.
في ذلك اليوم تحديدا طرقت عمتي هنية الباب بكلتا يديها:
- افتحي يا زهرة لقينا وليدي أحمد.
فتحت الباب مرعبة ارتعش من رأسي ﻷخمص قدَمَيْ، تحدثني بلسان متخبّط كأنها تلوك الحروف قبل أن تخرجها:
"هيا ألبسي وتعالي معانا شوفي رفيقك جابوه اليوم".
دون أن أفكر لحظة كعادتي عندما يتعلق الموضوع بأحمد صديق طفولتي وحاضري كله، أخذت جلبابي دون حتى أن أستأذن أمي للخروج ولم يأخذني فضولي ﻷعرف الوجهة، دماغي لا يترجم عدا "شوفي أحمد"، رفقة عمي مصطفى وعمتي هنية رحلنا إلى المستشفى.
كل خلية في جسدي كانت ترقص، أحمد لم يكن فقط مجرد صديق، كان يمثل كل تفاصيل يومي، أذكر عهد الصداقة الذي تلوناه معا. كنا في الرابعة من العمر، يوم حار من أيام أغسطس الحارقة، تحت ظل شجرة التوت التي في آخر الشارع حيث تقطن "سنبقى معا حتى نموت" رددتها بهدوء وحب الكون أجمع، من قلب طفلة لم يشوهها خبث الزمان بعد.
رجعت لواقعي حينما وصلنا المشفى، نزلت أسند عمتي هنية فقدميها هذه اللحظة لا تقوى على المشي وحيدة خطوة واحدة بدون سند، تنظر لعمي مصطفى بعينين آملتين وهو ذاهب يستفسر من موظف الاستقبال عن الحجرة التي تأوي أحمد.
لكن الموظف أجاب: "غالط يا بوي أحمد عطاك عمره الصبح، ودار الموتى نهاية الممر على يدك اليمين".
لم أعد أشعر سوى بعمتي هنية يرتعش جسدها كله دفعة واحدة وتصرخ بأعلى صوتها: "أحمد حيْ.. هو قال بيجي يشوفني".
تبكي عينيها أبنها، دموعا من جنهم، كطفلة في العاشرة فقدت كل عائلتها جملة واحدة، فقدت أمان العالم أجمع في هذه اللحظة، عمتي هنية القوية التي استلت القوة من بين فكي أسد لتزرعها داخل قفصها الصدري الصغير باتت اليوم كغصن شجرة ميت مرمي بين أحضان اليتم.
لم يكن أحمد طفلها البكر فقط، كان عكازها الذي يسندها حينما تخونها قدميها، كان عينيها عندما يصعب عليها إمرار خيط في ثقب إبرة الخياطة، كان أمانها عندما تبدأ ذئاب الحياة في العواء حولها، نورها عندما تعتم سماء قلبها، كان صديقها عندما تضيق أرضها بما رحبت. أحمد كل عالمها ويظهر في كل تفاصيلها.
لم يؤلمني رحيله بالطريقة التي أوجعني بها صراخها، فقْده كان الضربة القاضية التي قسمت قلبها قبل ظهرها.
أخبرني مرة أنه يحلم بأن يصبح طبيبا، يرتدي الأبيض لونه الذي يعشق، أذكر بكاءه حينما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية خانه حظه يومها وكانت النسبة مغايرة لكل توقعته، ضاربة بأحلامه عرض الحائط، تم تنسيبه للكلية العسكرية، الكلية التي جاءت بأجله سريعا قبل أن نكبر معا وأكون طبيبته الأولى، الكلية التي جعلت من عمتي هنية جدة بلا رائحة بعد ما كانت أما بنكهة الجدات.
علمتني بعدها عمتي هنية كيف تذبل الأيام وتصير كل الأحداث متساوية، لا شيء يُفرح ولا شيء آخر يُحزن، فقط ذات المتاهة تتكرر كل ليلة؛ أنا بفستاني الزهري أجري خلف فراشة وخلفي أحمد يحاول الإمساك بي لكنه يفشل في كل مرة ﻷني استيقظ في ذات اللحظة التي تلتوي فيها ساقه ويتعثر ليسقط.
رحل أحمد ورحل معه عهدنا ولم تبقى إلا شجرة التوت تشهد على مواثيق الصداقة.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك