صباح الورد


عبير السيد - فلورنس


وسط الزحام الشديد  قادتها الجموع إلى داخل الترام الذي لم تعتد عليه أو تحبه أبدا.. تمسكت بالعكاز المعدني الذي يسند جسدها النحيل. منذ أعوام بعد حادثة نجت منها بأعجوبة، قيل إنها تعمدت إلقاء نفسها تحت سيارة مسرعة، أو سقطت وهي شاردة   لتصحبها عاهة خفيفة كل سنوات الخريف.  
.. تتطاير خصلات شعرها الممزوجه بأشعة شمس بيضاء.. هدأت دوامة الصعود إلى الترام وتفرقت الأجساد إلى الداخل تنشد الجلوس والراحة، بينما تمسكت هي بمكانهاعلى الباب خوفا من دوامة الزحام عند النزول متجاهلة نظرات عيون ترقبها.
تحرك الترام بقوة محدثا ضجة معتادة تمايلت على أثرها وكادت تسقط بعد أن أفلتت يدها العكاز المعدنى.. ثوانٍ قليلة أبعدتها عن الارتطام بالأرض بعد أن ظنت أنها هاوية لا محالة. رأسها لم ترتطم بالأرض الصلبة؛ بل ارتطمت  بيد حنونة، يد تعرفها جيدا، إنها يده!!!   ..
هل أنت بخير ؟سألها
نعم ..أجابت وهي تدير رأسها لتتأكد أنها يده.
نظرة واحدة تكفي لأن ترتد عنها سنوات العمر،  لتحرر شبابها الراكد في  زنزانة  الغياب. . تلاقت العينين بشدة، اندفع تيار يسري في روحيهما، تتدفق براعم الربيع وتزهر.
تتقاطع أنفاسها عن الحياة  ثم تعود  من جديد.. استمرت عينيها تنهل من عينيه سرالحياة.. فورا بدأها قائلا:  أخيرا التقينا من جديد؟  
لكننا لم نفترق! أجابت
كل يوم أعد لك قهوة و زهور الصباح
كل يوم أرسل لك تحية وحضن  المساء  
كل يوم تسبقني  روحي  إلى ذراعيك
 كل يوم أحدثك بكل ما حدث  حتى لفح الهواء وجهي..
 ظل الشمس يتتبعني والسيارة التي صدمتني وأنا أبحث عنك،  وألقي بروحي في عالمك آلاف المرات  
.. لم ينبس  بكلمة  في رحلة العودة إلى عينيها يتذكر..
"الزغاريد تملأ المنزل.. شادية تغني"يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا".. حلقتان من ذهب تطوق إصبعيهما، والسماء تمطر المشهد بأمواج من فرح وركض أطفال العائلة وراء البالونات الملونة..
 خطيبان.. ابتسمت هي تكمل وكذلك أتى يوم الزفاف كانت الشمس قد لبست زينتها.. والقمر ينثر من دراهمه الفضية هنا وهناك.. صحبتهم  نجمة لامعة ظلت تحرسهما بفضول شديد،  ظلت في السماء  تتلصص على حبهم  وتشهد أدق التفاصيل، تنثر بشعاعها أنغام الحب.. إلى أن اختفت فجاءة في ذلك اليوم الذي خرجت أنت إلى عملك ولم تعد.
بل عادت  لنا روحك بلقب شهيد .. لم يأت من يومها لزيارتي، لا  الشمس  ولا القمر ولا حتى النجمة الفضولية  الحسود.. عدت لبيت أسرتي ووحدتي  التي سكنتني. . أطلقوا علي ألقاب مثل "المسكينة، المجنونة، الممسوسة... "..  فشل معي الأطباء  والشيوخ  والعرافات القابعات عند أركان البلدة  والبعيدات في أطراف الجبال...
ارتجت عربة الترام من جديد.. كادت تسقط مرة أخري  
لقد وصلنا  نزلا معا   وضعت يدها في يده   ..لم تغير الأيام منك شيء - سألها؟
بيده الاخرى يتحسس شعرها البني الطويل: - مازلت شابه جميلة - وأنت  أكثر شبابا ..أجابت
 وضع  يدة حول  خصرها  يحملها، يدور بها في المكان تماما كيوم العرس.. النجمة الفضولية  تطرق أذنها.. هل تزوجتِ..  سألها؟
أصرت الأسرة  أن أتزوج  لكني رفضت، وكنت أعيش على أمل أن تعود.. رفض عقلي أن يصدق رحيلك  ومازال يرفض كنت أعرف أنك ستعود...    
النجمة تتبعهم في فضول  لتسمع صوت العناق.. ذابت رأسها علي صدره، تتحسس  عنقه بوجهها تحتمي به تعبث أصابعها بشعره.. "يالغبائي  كيف كنت بهذا الغباء؟ كيف كانت رأسي بعيدا عن كتفيك كل هذا الزمن؟    
أطبق عليها ذراعيه لتهمس الأرواح وتهمس. تعاليَ الهمس تصاعدت  نسمات الحب تعطر الأجواء هربت النجمة حياء وبكرم تلقي بهالات من أشعتها احتفاء بالعودة فتتحول الحياة من أبيض وأسود إلى صورة كبيرة بالألوان.      
ما إن خفَّ الضجيج  علي رصيف الترام وتفرق الزحام  شيئا فشيئا بدا..
صوت سيارة إسعاف  تحمل امراءة  سقطت من باب عربة الترام  وارتطمت رأسها بالأرض الحجرية....
من بعيد تفتح عينيها تودع روح وردية  جسد تعلوه هالات المشيب وابتسامة كبيرة على  وجهها  شديد البياض..  بينما هى تلتصق بعنقه وتنظر في عينيه وهي تنصت  لشفتيه قائلا:  صباح الورد.  
 


 

 

تعليق عبر الفيس بوك