إِبَرٌ مَعْقُوفَةٌ بِاتِّجَاهِ أَسَفِي

 

د. مُحَمَّد حِلْمِي الرِّيشَة

(فِي الطَّرِيقِ إِلَيَّ)

نَزَلْتُ
أُطْعِمُ فَرَسِي أَمَلًا مُرْهَقًا، مِنْ حَقْلٍ ثَلْجِيِّ الشَّكِّ، أَوْرَاقُ تُرْبَتِهِ، الَّتِي لَهَا مَلْمَسُ بُنٍّ مَمْجُوجٍ، وَرَائِحَةُ غُبَارٍ نَائِمٍ، تَخْرُجُ بِصِيغَةِ إِبَرٍ مَعْقُوفَةٍ بِاتِّجَاهِ الأَسَفِ: بِاتِّجَاهِي.

صَدَمْتُ
لَافِتَةَ إِيقَاعٍ كَاسِدٍ، فِي حَدِيقَةٍ مُغَايِرَةٍ جِدًّا، ثُمَّ رَاقَصْتُ جُرْحِي، بَعْدَ أَنْ شَمَمْتُ وُرُودَ (فَيْرُوز) عَلَى سِيَاجِ اتِّكَائِهَا.

تَعَثَّرْتُ
بِعَثَرَاتِ أَزْهَارٍ حَافِيَةِ الرَّائِحَةِ، مُنْزَوِيَةِ الشَّكْلِ، مُطَأْطِئَةِ المَكَانِ. حَاوَلْتُهَا، لكِنَّهَا كُلُّهَا، بَهْجَةً وَاحِدَةً مُتَشَابِهَةَ التَّقَوُّسِ كَانَتْ، وَكُنْتُ أَنَا سَهْمًا فَرْدًا خَلْفَ عُرْيِ مَرَايَاهَا.

رَأَيْتُ
مِشْكَاةً مَوْهُومَةً، بَيْنَ أَصَابِعَ مُفْتَرِقَةٍ، لِقَبْضَةِ حُبٍّ تَرْتَجِفُ. صَعَدْتُنِي إِلَيْهَا بِسَاقَيْ أَلَمٍ رَسَمْتُهُمَا بِعَرَقِي عَلَى جِدَارِ صَدْرِي، وَلَمْ أَزَلْ أَنْزِفُ مِنْ سُقُوطِي المُتَكَدِّسِ فَوْقِي، وَلِمَ لَا؟

مَرَرْتُ
بِهِرَّةِ الحَيَاةِ تَحُكُّ فِرَاءَ ظَهْرِهَا بِخَشِنِ حَصَى النَّارِ وَتُوَقِّعُ السَّمَاءَ الصِّفْرَ بِسِيقَانِهَا أَعْلَاهُ، لِئَلَّا تَسْقُطَ عَلَى مَا تَبَقَّى لَهَا مِنْ جَبِينِ الضَّوْءِ الأَرْضِيِّ.

أَشْهَرْتُ
حَنْجَرَةَ الغِنَاءِ، بِتَوَاضُعِ دُورِيٍّ، عَلَى صَفْصَافَةِ الرُّوحِ، لِأَقْرَأَ مَوْجَةً تِلْوَ مَوْجَةٍ مِنْ عَصِيرِ القَلْبِ. أَمَّا الجَسَدُ، فَتَرَكْتُهُ يَرْعَى نَدَى رُمَّانَةٍ اصْطَادَتْهُ مُحَلِّقًا بَيْنَ مِرْوَحَةِ جَفْنَيْهَا.

رَعَّشْتُ
مَا شِئْتُ مِنْ تَوَائِمِ الفَرَاغِ، الهَذَيَانِ، الصَّدَى، العَطَشِ، الرَّيْبِ، العَتْمَةِ، ...، وَمَا شِئْتُ مِنْ تَوَائِمِ الضَّوْءِ، الصَّوْتِ، النَّارِ، المَاءِ، الفَرَحِ، النَّشْوَةِ، ...، بِعَزْفٍ مُنْفَرِدِ الحُلُمِ، عَلَى رِقَاعِ نُبُوءَةٍ.

عَرَفْتُ
مِنْ هُدْهُدِ رِحْلَةِ الحَيَاةِ، حَيَاتِي، اتِّجَاهًا خَامِسًا، وَمَا وَشْوَشَ (سُلَيْمَانَ) عَنْ زَغَبِ سَاقَيْ (بَلْقِيسَ) قَبْلَ أَنْ تُشَمِّرَ عَنْهُمَا.

عَلِمْتُ
خُبْثَ نَوَايَا (زلِيخَة) أَنْ لَا تَتَّخِذَ مِنْ (يُوسُفَ) ابْنًا، بَلْ أَجِيرًا لِجَسَدِهَا، ذلِكَ أَنَّ فِتْنَةَ الجَمَالِ المُتَفَرِّدِ، لَا تُقْرَأُ بِحَاسَّةِ النَّظَرِ فَقَطْ.

تَحَسَّسْتُ
، بِغَوَايَةٍ، حَيَّةً لَوْلَبَتْ لِي مَدَّهَا مِرَارًا. غَيَّرَتْ أَمَامِي أَثْوَابَ لِسَانِهَا بِدَلَالِ رِضَابٍ. تَلَوَّتْ وُقُوفًا عَلَى ذَيْلِهَا نَاتِئَةً رَفَّ مُؤَخَّرَةٍ كَأَنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ... ثُمَّ وَسْوَسَ لِي شَيْطَانُهَا البَرِيءُ.

حَاوَلْتُ
أَنْ أُخْرِجَهَا مِنْ رَأْسِي، لكِنَّهَا كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ قَلَمِي ذَاتِهِ إِلَى وَرَقَتِي ذَاتِهَا.

ثَقَبْتُ
بِأُذُنِي بَلِيغَ صَرْخَةِ (أَرْخَمِيدِس) فِي حَوْضِ "وَجَدْتُنِي". وَفَعَلْتُ، مِنْ مَا فَعَلْتُهُ، أَنْ أَعَدْتُ تَعْلِيقَ تُفَّاحَةِ (نُيُوتُن) عَلَى شَجَرَتِي العَالِيَةِ وَقَدْ قَبَّلْتُهَا قَضْمَةً بَطِيئَةً.

أَزَحْتُ
عَنِّي، جَانِبًا، شَعَائِرَ الكَلَامِ المُتَاحِ، وَأَشْعَلْتُ حَطَبَ الحُرُوفِ المُبَاحَةِ، ثُمَّ أَغْرَقَنِي، فِي مَسَائِهِ النُّورِيِّ، ضِيَاءٌ "مُحَرَّمٌ" عَلَى عَيْنِ العَادِيِّ.

نَثَرْتُ
حَبَّ حُبٍّ، ابْتَلَعَتْهَا مَنَاقِيرُ النِّسَاءِ العَشْوَائِيَّاتِ، ثُمَّ لَفَظَتْهَا تُهْمَةً لِـ (هِيلُويِز): "اسْمَحْ لِي أَنْ أَكُونَ مُومِسَكَ". فَنَثَرْتُ حِجَارَةَ ضَوْءٍ، لَا لِأَعْرِفَ الرُّجُوعَ، بَلْ لِيَسْتَضِيءَ بِهَا قَلْبُ غَيْرِي.

تَعَتَّقْتُ
خَمْرَةَ لَهْثِي بِعَصِيِّ السُّكُونِ، وَلَمْ أَسْتَرِحْ، بَعْدُ، خَلْفَ شَمْسِ أَسْئِلَتِي. كَمْ رَأَيْتُ (أَرَى) كَيْنُونَتِي تَبْزُغُ، مِثْلَ قَلَقٍ مُتَوَهِّجٍ، بَرَّ دُوَارِي!

اخْتَرَعْتُ
صُوَرَ الكَلِمَاتِ مِنْ أَجْلِ وَصْفِهَا؛ أَقَلُّهَا أَنَّ لَهَا دَمْعَةً لَا تَرَاهَا بِعَيْنِهَا.

شَهِدْتُ
أَنَّ "النَّظَرَ غَيْرُ الرُّؤْيَةِ"، فَنَقَشْتُ فَوْقَ ضَرِيحِي: كَمْ مِنَ الأَصْنَامِ عَلَيَّ أَنْ أُهَشِّمَ كُلَّ يَوْمٍ؟

بَحَثْتُ
فِي صَفَحَاتِي كُلِّهَا،
وَتَأَلَّـمْتُ لِخَسَارَتِكِ لِي.

تَمَنَّيْتُ
حَتَّى لَوْ رَكْلَةَ جَزَاءٍ، عَلَى مُؤَخَّرَةِ العُمْرِ، تُطَيِّرُنِي إِلَى حَلِيبِ حُلُمِ أُمِّي، وَحَلِيبِ نَيِّئِ التِّينِ، وَحَلِيبِ مُرِّ اللَّوْزِ، وَحَتَّى إِلَى مَا قَبْلَ تَوْقِيتِ الحَلِيبِ.       

عَبَرْتُ
حُبًّا عَلَى أَرْبَعٍ. امْتَطَيْتُهُ، وَتَدَلَّى قَلْبِي مِنْ عُنُقِي مِثْلَ جَرَسِ كَنِيسَةٍ لِغَيْرِ أَيَّامِ الأَحَدِ.

التَقَيْتُ
ظِلًّا بِلَوْنِي. أَجْلَسَنِي فِي تَجْوِيفِ حِضْنِهِ، كَتَشَبُّثِ أَعْمًى لَمَسَ شَيْئًا مَا، بَعْدَ فَرَاغٍ دَائِرِيٍّ يَتَشَاسُعُ كُلَّمَا رَآهُ.

غَنِمْتُ
مَا شِئْتُ
لَوْ لَمْ أَفْتَحْ قَبْضَتَيَّ
حِينَ رِيحِ نُبَاحٍ.

انْتَبَهْتُ
إِلَى مَسَارِ البُؤْسِ يَأْخُذُنِي بِيَأْسٍ، إِلَى أَنْ أَفْقِدَ مَا وَجَدْتُهُ، وَقَدْ كُنْتُ شَاهَدْتُ مَعَهَا أَمْسِ "مُسْتَقْبَلًا أَرْهَقَهُ الأَمَلُ."

هَمَسْتُ
لِجَسَدِي: مَا حَاجَتِي لِلسَّاقَيْنِ إِنْ كُنْتُ أَمْتَلِكُ جَنَاحَيْنِ لِلتَّحْلِيقِ؟

نَدَهْتُهَا
كَثِيرًا حَتَّى ارْتَخَتْ نَدْهَتِي عَلَى إِيقَاعِ صَوْتِي:
يَا شَفَةَ حَبِيبَتِي
يَا
رِقَّةَ
المِقْصَلَةِ.

رَأَيْتُ
مَا
بَقِيَ
لِي
مِن
أَيَّامٍ.

صَحَوْتُ؛
لَمْ تَكُنْ لِي مِنْ طَرِيقٍ،
وَلَمْ ...
أَكُنْ ...
أَنَا!

 

تعليق عبر الفيس بوك