ثــورة كــزهر الفُــــــل


زيد الطهراوي – الأردن

لا أملك محو الثقافات.. وفي خضم مأساة الشعوب أصرخ: على رسلك يا ثقافات؛ تبنين وتهدمين
تطعمين وتجوعين، تضحكين وتبكين؛ إن ثقافات العالم متناقضة ولا يخلد منها إلا ثقافة السمو، ولكن ثقافة الهبوط لها قبضتها الحديدية التي لا تسلم منها المجتمعات فتفرق ولا تجمع و تترك الناس يتنافسون على مائدة الخصام.
حين كتب الشاعر الراحل محمود درويش: أريد أن أؤسس سلطة للجمال وضَّح رغبته بأن السلطة لا تعني النظام فقط. فمحمود درويش الذي عانى من قتل الأبرياء في وطنه وتشريدهم ما زال يحلم بسلطة الجمال التي تعارض سلطة القتل والتشريد والعنف واغتصاب الحقوق والبلدان.
وتمثلت سلطة الجمال في إنسانية شعر درويش كما تمثلت في جمال الصورة الفنية والرموز، فقد أبدع درويش إنسانيا حين قال:
(فكر بغيرك
وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمام
وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس مَنْ يطلبون السلام
وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيركَ
مَنْ يرضَعُون الغمامٍ
وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيركَ
مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
قل ليتني شمعة في الظلام)
وأبدع فنيا أيضا حين قال عن بيروت التي أحبها وأحب جمالها الساحر:
(فراشة حجرية بيروت،  شكل الروح في المرآة،  رائحة الغمام
بيروت من ذهب
بيروت من تعب
وأندلس وشام)
فللجمال سلطة وللثقافة أيضا سلطة وثورة بعيدا عن ثورات السياسة التي تسفك الدماء والأشلاء
ثورة الثقافة شبيهة بثورة زهر الفل والياسمين حين تهاجمها الرياح فتسفك في روعة أريجها العبق و فتاتها الجميل؛ ثورة الزهور الأنيقة تتغلغل في النفوس فتسعدها وترهف مشاعرها وتهديها أجمل الروائح فتملأ رئتها بالجمال والسعادة و النشاط.
قد لا تستطيع الثقافة أن تعمل عمل الزهور لأن الثقافة تخضع  للبشر والبشر يخضعون للأهواء والسلوكيات التي لا تسر الصديق، ولذلك صرخ شاعر الأردن الراحل مصطفى وهبي التل حين أصبح العلم في زمنه طريقا للمباهاة والعجب والكبرياء فقال: (... والعلم في عَمَّان أزياء)
العلم أزياء، ولذلك فإن هذا العلم سيُنسى ويندثر بعد أن يحصل صاحبه على الشهادة التي يباهي بها من حوله و نحن لا نريد هذا؛ بل نريد عشق الثقافة للثقافة،  نريد أن تتغير النفوس فتنبت نباتا طيبا، و أن نسدل الستار على كل الأشواك التي أنبتتها الثقافات الهزيلة.
من يستطيع أن يزعم أن ثفافتنا في هذه الأيام زهور تعبق في سماء أيامنا و تدثر قلوبنا وأخلاقنا بالسمو والرفعة، قد لا تحتاج أن تخرج من يطلق الفحيح فيسمم أحبابك من مدينتك ولكنك تحتاج أن تطلق أنت شدوك المفعم ببلسم الجروح.
إنَّ إطلاق الأحكام بتسرع أمر لا نقره؛ و لكن الإناء بما فيه ينضح، والأشواك تمتد وتستعلي بمناصرة أعداء الزهور فمتى تنفض الزهور النقية عنها غبار الخمول ليزأر كل المحبين بعد رقدتهم؟ متى نستأهل أن نوصف بأننا مثقفون؟ فما أكثر المثقفين في بلادنا ولكنهم يعيشون في أحلامهم وشعوبهم تعيش في المنافي والمخيمات ومن منا لا يتألم وهو يقرأ الشاعر الفلسطيني سالم جبران عندما قال: (والويل للتاريخ من جيل الخيام). نعم؛ الويل للتاريخ من جيل الخيام الذي ظلمته ثقافة الانحطاط والسلب والغطرسة وحضارة العلو والاستكبار.

 

تعليق عبر الفيس بوك