التنمية لإخماد الحرب

حاتم الطائي

المتأمل للتاريخ الإنساني -لاسيما المعاصر منه- يكتشف ببديهية أن لا حربا نجحت في تنمية أي بلد، ولا صراعا انتهى بمكاسب مطلقة لطرف وخسائر فادحة لطرف ثانٍ؛ بل إن الواقع يقدم صورة مخالفة لما قد يظنه البعض "أمرا مسلّما به".. وعندما نتحدث عن التنمية، فإننا نشير إلى فرص عمل وإنتاج ومشروعات ونمو اقتصادي لكل من يدخل دائرة التنمية.

أقول ذلك والعالم بأسره يقف على أطراف قدميه يترقب بأعين شاخصة المواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وعواقب الصراع التجاري القائم بين أعتى اقتصادين على كوكبنا، فثمة تناحر جمركي شديد يستعر الآن بين بكين وواشنطن، أوقد شرارته الأولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فيما جاءت ردة الفعل الصيني من أجل محاولة تفادي النيران الأمريكية على صادراتها التي تتخطى النصف تريليون دولار. وفي ظل ضخامة هذه الصادرات الصينية (مقارنة مع صادرات أمريكية إلى الصين وصلت إلى 130 مليار دولار فقط)، لجأت إدارة الرئيس ترامب إلى محاولة استنزاف التنين الصيني، من خلال فرض رسوم جمركية تقدر بنحو 50 مليار دولار، وقد تصل إلى 3 أضعاف ذلك الرقم حال محاولة الصين الرد برسوم على الواردات الأمريكية إليها.

هي حرب تجارية إذن تنذر بزلزال محتمل في التجارة العالمية، مما يهدد بتفاقم الوضع الاقتصادي الدولي الراهن بصورة أشد سوءا مما واجهته إبان الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان (2008)، مرورا بالانكماش الاقتصادي وارتفاع عجوزات موازنات الدول المعتمدة على النفط بعد انهيار سوق الخام الأسود في 2014، وعدم تعافيه بالكامل حتى الآن. وأولى الهزات الزلزالية تتمثل في خلخلة نظام التجارة العالمية، وهو ما يعني أننا مقبلون على تغيير جذري وثورة هدامة للنظام الاقتصادي القائم حاليا على القاعدة الراسخة بحرية حركة التجارة مع أقل ضرائب جمركية، على الأقل بين الدول المنضوية تحت مظلة اتفاقية التجارة الحرة.

لكن في أتون هذه المعركة، والتي كانت تتوقعها الصين منذ صعود ترامب -عندما وضعت نصب أعينها تسيد النظام العالمي- نصبت بكين أولى دفاعاتها في هذه الحرب بأن وضعت مبدأ الشراكة والتنمية وتدا راسخا في علاقاتها مع الدول، وفي المقدمة الدول النامية، التي عانت وتعاني من الهيمنة الأمريكية -والغربية بصفة عامة- على المنظمات الدولية؛ مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي...وغيرها من الجهات الداعمة للنمو الاقتصادي في هذه البلدان. لكنَّ الصين، في هذا الإطار، رسخت لنموذج البناء التنموي في مقابل الهدم المتعمد المتمثل في نشر الحروب لضمان ازدهار صناعة السلاح.

التنمية التي تطمح إليها الصين، تستند إلى مبادرة "الحزام والطريق"، والتي تحتضن في داخلها العديد من دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، وصولا إلى إفريقيا، وتسعى بكين من خلالها إلى تقليص الهيمنة الغربية على خطط التنمية في هذه الدول، والتي غالبا ما تكون مرتبطة بأهداف سياسية، لتكون التنمية في هذه المبادرة معتمدة على الشراكة وتبادل المنفعة من أجل الشعوب.

ولقد كانت السلطنة بقيادتها الحكيمة، على وعي كامل بالمبادرة الصينية، وهو ما تجلى في التحركات الأخيرة من قبل الجانبين من أجل توطيد علاقات التعاون وتفعيل مبدأ الشراكة المتبادلة القائم على مصالح الشعبين ووفق رؤية سديدة لقيادتي البلدين. وخلال انعقاد منتدى التعاون الصيني العربي في بكين مؤخرا، تقاسمت السلطنة والصين وجهات النظر بشأن مبادرة الحزام والطريق، وأيدت حكومتنا الرشيدة مبادرة الحزام والطريق. ولقد تكلل نجاح هذا المنتدى بالإعلان عن الاتفاق لتأسيس شراكة إستراتيجية كاملة بين الصين والدول العربية، وهي منظومة متكاملة من التعاون تقوم على الاستثمار المباشر في مشاريع تنموية وقطاعات حيوية، وترمي كذلك إلى حلحلة قضايا إقليمية لضمان عدم تعرض هذه التنمية لتهديدات من جانب قوى إقليمية أو تحركات عسكرية تقضي على هذه المشاريع العملاقة المنتظرة.

ومن هنا، أؤكد أن بلادنا قادرة على الإسهام بقوة لإنجاح مبادرة الحزام والطريق، بفضل ما تتمتع به من موقع إستراتيجي بالغ الأهمية، في القلب من خط سير هذه المبادرة، التي تنطلق من الصين شرقا وتمر بالشرق الأدنى لتصل إلى أوروبا وإفريقيا، وهما أكبر سوقين في العالم، من حيث عدد السكان والتنوع الاقتصادي. إضافة إلى ما تتميز به عُمان من استقرار سياسي وأمني من شأنه أن يضمن النجاح لأي استثمار، سواء قادم من خارج الحدود، أو منطلق من داخلها.

وفي الصدارة من الأهمية الإستراتيجية للموقع الجغرافي للسلطنة، تقف مدينة الدقم بشموخ عُماني لتعلن عن نفسها مدينة اقتصادية متكاملة الخدمات، وبالمقابل يأتي التنين الصيني بثقله وبإيمان لا يتزعزع بأن هذه المدينة بوابة اقتصادية كبيرة، فيضخ أكثر من 10 مليارات دولار استثمارات كبداية مشرقة لمستقبل هذه المدينة الواعدة، مؤكدا بذلك خططه لتطوير علاقات التعاون لتتخطى ثنائية الصادرات والواردات، وتنتقل إلى مراحل أكثر تقدمًا.

غير أنه لا ينبغي الاكتفاء باستقطاب الاستثمارات الصينية إلى بلادنا في صورة مليارات خضراء، لكن أن تتحول هذه الشراكة القائمة على التنمية، إلى واقع عملي يتمثل في نقل التكنولوجيا الصينية إلى عُمان، وتدريب وتأهيل شبابنا على الإنتاج القائم على اقتصاد المعرفة. فالصين باتت عملاقا في سوق التقنية، تنافس مصانعها تلك التي تقع في وادي السيليكون الأمريكي، وتسعى للتفوق أيضا في ساحات الذكاء الاصطناعي، وتنافس اليابان المتفوقة بقوة في هذا المجال. الصين لم تكتفِ بذلك وحسب، بل إن شركات صينية على درجة مماثلة لكبريات الشركات الأمريكية، فبايدو أمام جوجل، وعلي بابا في مواجهة أمازون، ووي تشات قضت على واتساب في الصين، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى التي حلت محل مواقع عالمية؛ مثل: فيسبوك، وتويتر، وإنستجرام...وغيرها.

وختاما.. الحديث هنا لم يعد مُتمحورا حول كيفية تفادي الحرب التجارية، أو الحد من تبعاتها علينا، لأن -بظني- أن الصين قادرة على خوض هذه الحرب والتعاطي معها، وفي المقابل نتحدث عن كيفية الاستفادة من الخطط الصينية لبناء شراكات تنموية، والفرصة الآن مواتية في ظل احتفال السلطنة والصين بذكرى مرور 4 عقود على انطلاق العلاقات الدبلوماسية البينية، وتوظيف هذه الفرصة التاريخية من أجل العبور للمستقبل على أرضية صلبة نستطيع أن نثبت أقدامنا عليها، وننطلق من خلالها نحو عصر اقتصادي جديد، يبدو أن النموذج الرأسمالي الحالي لن يكون صاحب اليد الطولى فيه، بل ستفرض الصين قواعد أخرى، والفائز هو من يستطيع الاستفادة من الإرادة الصينية في بناء نموذج اقتصادي عالمي قائم على المصالح المشتركة والنمو المستند على معدلات الإنتاج لا النمو الناجم عن زيادة مبيعات السلاح وإشعال التوترات والحروب في العالم.