دروس تعددية الممارسات العولمية

 

 

د. علي فخرو

 

بغياب إيديولوجية، أو منظومة فكرية اقتصادية مُترابطة، ومتناسقة في بلاد العرب حالياً، كما كان عليه الحال بالنسبة إلى العديد من الأقطار العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، يلحّ على الذهن هذا السؤال: إذا كانت أنظمة الحكم العربية لا تملك نسقاً فكرياً اقتصادياً، نابعاً من ظروف الوطن العربي ومُلبيّاً لحاجات وتطلّعات الأمة، فما الذي يحكم الحياة الاقتصادية العربية؟

في اعتقادي أنَّ الذي يحكم هو الانخراط التابع في الأعراف والممارسات الاقتصادية العولمية التي ابتدعها الآخرون، ويفرضونها على العالم منذ بضعة عقود، ونعني بها الرأسمالية النيولبرالية العولمية، بتفاصيلها الكثيرة المتشعّبة.

حسناً، إذ لا يستطيع العرب أن يعيشوا خارج العالم المحيط بهم. ولكن ألا توجد ضمن تلك الأعراف والممارسات تنوعات في التطبيق، بل وحتى في الأهداف المراد تحقّقها؟

الجواب، هو «نعم»، إذ وجدت وتوجد أشكال من التعاملات مع النظام الاقتصادي العولمي السّائد حالياً.

فالتعامل الأمريكي، مثلاً، هو غير التعامل الصيني، والتعامل الكوري الجنوبي هو غير التعامل الأسكندنافي الأوروبي.

لقد كتب عن التجارب والتعاملات الآسيوية، وطالب الكثيرون من الكتاب العرب بدراسة نجاحاتها، وتعلُّم دروسها التاريخية، والحالية. ونبّه الكثيرون إلى أنَّ الدول الرأسمالية الآسيوية الناجحة قد مارست سياسات حمائية لصناعاتها، ومختلف أنشطتها الاقتصادية، قبل أن تنخرط في المنافسات العولمية، وقبل أن تفتح أسواقها أمام الشركات والرساميل الأجنبية.

وها أن الولايات المتحدة الأمريكية، عرّابة النظام الرأسمالي النيولبرالي المتوحّش، وغير المنضبط، تعود إلى ممارسة الحمائية في أبشع صورها. وهو ما يشير إلى أن النظام الاقتصادي العولمي ليس موضوعاً مقدّساً لا يمكن المساس به، أو تعديله.

إذا كان المشهد الاقتصادي العولمي بهذه التعدديات التفصيلية، فما الذي يمنع العرب من انتقاء مجموعة من الممارسات الناجحة عند الغير، وتوليفها لتكون صالحة ومفيدة للوضع العربي الاقتصادي الذي يعاني الأهوال، سواء في أقطاره الغنيّة، أو في بلدانه الفقيرة؟

فإذا كانت التجربة الآسيوية تعطي دروساً في أهمية ممارسة الحمائية للصناعات والخدمات العربية الناشئة، فإن التجربة الأسكندنافية قادرة على إعطاء دروس في أنسنة الرأسمالية النيولبرالية، وإلباسها القيم الأخلاقية، وجعل سيرورتها لا تتعارض مع التزامات الدولة الاجتماعية تجاه المواطنين كافة، وعلى الأخص الفقراء والمهمّشين، في حقول من مثل الصحة، والتعليم، والعمل، والسكن.

المطلوب هو دراسة القدرات والسياسات في الدول الأسكندنافية (السويد والدنمارك وفنلندا والنرويج) التي مكّنت تلك المجتمعات من جعل مؤسساتها الاقتصادية وشركاتها قادرة على المنافسة الاقتصادية مع الآخرين، من دون أن تفقد تلك المجتمعات روحها الإنسانية الأخلاقية، ومن دون أن تتنازل عن كونها دول رعاية اجتماعية شاملة في حقول التعليم، والرعاية الصحية، وتوفير الأعمال، ومحاربة البطالة، ومساندة ذوي الإعاقة.

نقول ذلك، لأنّ الأغلبية من أنظمة الحكم العربية تسير على النّهج الرأسمالي النيولبرالي المتوحّش الذي تمارسه دول من مثل أمريكا، أو بعض دول أوروبا الجنوبية.

إن سير الأغلبية من الدول العربية نحو التخلّي عن التزاماتها الاجتماعية التي كانت تلتزم بها في السابق، وتسليم تلك الالتزامات إلى القطاع الخاص، يهيّئ مجتمعاتهم لانفجارات واضطرابات بدأت طلائعها منذ عام 2011. وفي المدة الأخيرة أضيفت ممارسة جديدة، وهي تحميل المواطنين مسؤولية عدم التوازن في الموازنات الحكومية، والمطالبة المتنامية بزيادة الرسوم والضرائب المباشرة، وغير المباشرة.

إن كل ذلك يتمّ من دون أي مساس بنمط الحياة السياسية العربية المتخلّف، وبامتيارات هذه الأقلية أو تلك، ومن دون إعطاء أية اعتبارات لظروف الفقراء، وذوي الدخل المحدود.

في هذه الأوضاع التي تقود بسرعة هائلة إلى زيادة غنى الأغنياء العرب، وإلى زيادة فقر فقراء العرب، بسبب الارتماء الأعمى في أحضان إملاءات الرأسمالية النيولبرالية العولمية، كما تمارسها بعض الدول الغربية الفاقدة للبوصلة الإنسانية والأخلاقية، نحتاج، نحن العرب، إلى إبعاد أنظارنا عن الممارسات المجنونة الأنانية المنحازة للأغنياء فقط، والبدء بالنظر إلى، والتعلّم من ممارسات أكثر إنسانية وعدالة.

لسنا بملزمين على الإطلاق بممارسة أخطاء وخطايا النظام الرأسمالي العولمي الحالي الجائر. لسنا بملزمين بإهمال فضيلة العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، وبالتالي في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، واختفاء الطبقة الوسطى.

لسنا بمكرهين على قبول تنازل الدولة العربية عن التزامات الرعاية الاجتماعية الأساسية.

ليست الدولة العربية، ولا المواطن العربي، بملزمين بالدخول في جنون المديونيات التي تجني أقليات من ورائها المال الوفير على حساب الدول والأفراد. ثم تقوم تلك الدول، ويقوم أولئك الأفراد بممارسة ضنك العيش وفواجعه من أجل تسديد تلك الديون.

لسنا بملزمين أن نسلّم أمورنا إلى متطلبات الأسواق وأنظمتها من دون تدخّل الدولة. فالسوق غير المنضبط طريق للفواجع والانفجارات.

لن نكون، نحن العرب، وحيدي زماننا بالنسبة إلى هذا الأمر، فلقد مارسه بحكمة وشجاعة الآخرون، فلنتعلم منهم.

تعليق عبر الفيس بوك