قراءة في الكون المنظور والكون المسطور


محمد عبد العظيم العجمي - مصر


إذا كانت مصادر العلم المعتبرة هي التي نجمعها من البحث والدراسة النظرية والعملية في مفردات الكون والنفس والحياة، وهي التي نطابق بينها ونهتدي إليها بهذه الفطرة الربانيّة في العلم الأول (الأسماء كلها)، فإن لهذا العلم بعدا آخر كنوع من الامتداد الأفقي الذي يرسخ له ويدعو إليه، ويؤكد على صحة نظرياته المحققة بالطرق العلمية والعملية، ويصنع كذلك نوعا من التطابق مع هذه النظريات يكاد يجزم كل منهما بصحة الآخر، هذا البعد هو "الكون المسطور"، وهو على ما حوى من آيات الأحكام والتشريع والتوحيد والدعوة والمحاججة، وأخبار الأمم الغابرة، إلا أننا نتعرض هنا لقضية العلم البحثي التي تربط بين الكون والقرآن.
والكون المسطور هو هذا الكتاب المنزَّل من عند الله العليم الخبير، والذي بدأ الخلق وأبدع الكون وأقام بقدرته (جَلَّ وعلا) السموات والأرض وأمسكهما أن تزولا، وسيَّر الكواكب والأفلاك بحسبان، ووضع موازينها ومستقراتها ومبدأها ومنتهاها، وأرسى الجبال، وقدرالأقدار  وخلق الإنس والجن والحيوان والطير والنبات، وجعل لكل خلق آية، وهدى كل مخلوق إلى حكمة خلقه " ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ" (طه - 50). وقد بسط كل هذا في الكون المنظورـــ كما ذكرنا في المقال السابق ــــ تدل كل ذرة فيه على أنه "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (البقرة -117).
فالمتأمل في هذا الكون يرجع فيه البصر كرات لا يستطيع عقله ولا بصره ولا حواسه إلا أن يذعن ببدعة الخلق، وأن يقرَّ للخالق بالوحدانية، ومن كمال الوحدانية أنه لم يدّع مُدّع بدعة الخلق من لدن آدم حتى الساعة ولن يستطيع، وقد أسلمت كل الكائنات له قيادها، (فألقت عصاها واستقر بها النوى)، ثم كتب الله هذا الخلق وأنزل هذه الآيات المتلألئة في الكون، كتبه في (كتاب مسطور) هو (القرآن العظيم ) وفصَّل فيه آيات الكون المنظور جميعها " مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام - 38). وأخبر بها، وقص علينا قصة بدء الخلق (الكون والإنسان) وأمرهم أن يسيروا للتأمل في الآيات الكونية بالنظر والبحث والعلم والتأمل "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت -20).، " أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ"(الأعراف – 185). " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء -30).
ثم تحدى الله الخلق جميعا (الإنس والجن) بهذا الكتاب المسطور بعد أن تحداهم بانفراده بالخلق والكون، أن يأتوا بمثله، أو عَشْرِ سُور مثله، أو سُورة مثله، وما يزال هذا التحدي قائما ومستمرا حتى نهاية الكون، حتى لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، إن استطاعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" (البقرة - 24).
وهذا منتهى التحدي والاستدلال والانفراد بهذه الأحدية، ولن يستطيع المنهج العلمي بعد البحث والتأمل إلا أن يثبت ذلك ويقر به، فهذه هي الآيات المكتوبة تشرح وتتحدى وتستدل، وهذه هي الآيات المنظورة تشهد وتثبت وتقر، ولا يوجد كتاب على وجه الأرض يبدأ حديثه كما بدأ القرآن الكريم متحديا ﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) (البقرة – 1، 2)، فينفي عن نصه النقص أو الريب أو الشك؛ بل ينفي كذلك أن تطاله يد التحريف التي نالت الكتب من قبله "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الرعد - 9). وإنما يحقق كل ما جاء فيه ويتحدى من يأتي بمثله أو يأتي بما يناقضه أو يعارضه، مع ما فيه من الآيات البينات والتحديات الواضحات، والمسائل الكونية اللامتناهية والتي من المحتمل أن يأتي العلم بعد حين ليشكك في بعضها أوينقضها إنما هذا لم يحدث ولن يحدث.. يقول الدكتور (موريس بوكاي) في مقدمة كتابه (القرآن والتوراة والإنجيل والعلم): "إن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية، وهي وقائع كثيرة جدا، خلافا لقلَّتها في التوراة، إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جدا لما أثارته التوراة من الأمور ذات السمة العلمية، وبين تعدد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن، وإنه لا يتناقض موضوع ما من مواضع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية"، ويقول أيضا: "ولا عجب في هذا إذ عرفنا أن الإسلام قد اعتبر الدين والعلم توأمان متلازمان، فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءًا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام".
لقد تحدث القرآن بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل عن آيات كثيرة مبهرة منها "أطوار خلق الإنسان" التي ذكرت من الماء والتراب والطين والصلصال والحمأ المسنون، ثم مراحل تكوّن الجنين: النطفة والعلقة والمضغة والعظام واللحم، ثم الخلق الآخر، واختصرها في قوله " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ" (الروم - 54). وتحدث عن خلق الحياة واستمرارها الذي لا يكون إلا بالماء " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء - 30). وأزواج الحيوان والنبات، ودورة حياة النبات التي تبدأ بنزول الماء من السماء، فيخرج الزرع المختلف ألوانه فيُعجب به الزراع، ثم ما يلبث أن يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما، وهي تشبه إلى حد كبير دورة الحياة الدنيا جميعها التي ما تلبث أن تنقضي كذلك كأنها عشية أو ضحاها، وكذلك حمل الإنسان في البر والبحر والرزق من الطيبات، وبسط الأرض على الماء، ورفع السماء بلا عمد، وانتظام حركة الكواكب والنجوم والأفلاك بحساب معلوم، وعدد نعمه على خلقه الظاهرة والباطنة التي لا يستطيع عاقل ولا عقل أن يجحدها أو يحصيها، وتفرد وحده بكل هذا الخلق، لم ينازعه فيه أحد، ولم يدع مدع خلقا أو شركا، وأقام على ذلك الحجة العقلية الجدلية "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (المؤمنون - 22). "قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا" (الإسراء - 42).
ولما عدَّد الله الخلق والنعم في كتابه وكونه أراد سبحانه أن يدحض حجة المعاندين ويحتج عليهم بالعلم الذي لا يقبل مجالا للشك، وأمرهم أن يأتوا بما عندهم من الدليل والبرهان "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (النمل - 64). ، "قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ" (الأنعام - 148). ، وأمرهم أن يقرأوا هذا الكتاب ويقفوا على آياته البينات ويتفكروا فيها باستعمال المنهج العلمي والعقل المجرد بعيدا عن الهوى والميول والانتكاس الفطري، ثم يذعنوا لما يُفضي إليه هذا العلم والبحث، ولن يُفضي إلا إلى خالقه - جلَّ وعلا - ، ولن يستطيع برهان في الكون أن يعاند نواميسه، أويخالف سننه وقوانينه، أويكذِّبَ فاطرَه وخالقه، وهذا هو عين المنهج العلمي الحديث الذي نحتج به في النظريات والعلوم.
وإذا كانت هذه الآيات من الكون والكتاب تغمر الإنسان من بين يديه ومن خلفه، ومن داخل فطرة النفس التي تتأبى إلا أن تُقِرَّ لخالقها ومبدعها، فكيف يخرج عن هذا الناموس ويشذّ عن هذه المنظومة الكونية المحكمة العجيبة. إن العلم إذا اهتدى بالفطرة القويمة لابد أن يُقرَّ بحقيقة هذا الكتاب التي تُجلي حقيقة هذا الكون، ويصدقُ أحدهما الآخر، أما إذا انتكست الفطرة ونكصت على عقبها فإنها لا تزال سادرة في عنادها حتى يأتي وعد الله، ومن أصحاب الفطرة السليمة الذين تبيَّن لهم الحق كما بيَّنه العلم فأذعنوا له وآمنوا به كثير، كعالم الأجنة الكندي الدكتور(كيث مور) الذي يقول في مؤتمر علمي "إنني أشهد بإعجاز كل طور من أطوار خلق الإنسان في القرآن الكريم ـــ يقصد ما جاء في سورة (المؤمنون) ــــ ولست أعتقد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أو أي شخص آخر يستطيع معرفة ما يحدث في تطور الجنين لأن هذه التطورات لم تكتشف إلا في الجزء الأخيرمن القرن العشرين". وهذا البروفيسور الياباني (يوشيدي كوزاي) الذي سمع القرآن يقول"ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فُصِّلَتْ - 11). فقال مندهشا: لم يصل العلم والعلماء إلى هذه الحقيقة إلا منذ عهد قريب بعد أن التقطت كاميرات الأقمار الاصطناعية القوية صورا وأفلاما حية تظهر نجما وهو يتكون من كتلة من الدخان الكثيف القاتم، ثم قال: بهذا نكون قد أضفنا إلى معجزات القرآن معجزة جديدة مذهلة أكدت أن الذي أخبر عنها هو الله الذي خلق الكون قبل مليارات السنين".
وهذا البروفيسور الأمريكى (بالمر) الذي قرأ قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء - 30)، وقد قال العلماء: "حقا لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريخ إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء، وقال (بالمر): "إن ما قيل لا يمكن بحال من الأحوال أن ينسب إلى شخص مات قبل 1400 سنة لأنه لم يكن لديه تليسكوبات ولا سفن فضائية تساعد على اكتشاف هذه الحقائق فلابد أن الذي أخبر محمدا هو الله، وقد أعلن إسلامه في هذا المؤتمر العلمي فى الرياض" عام (1979).
والعالم التايلاندي (تاجاس) اعتنق الإسلام على الفور في مؤتمر الإعجاز الطبي (1982) حين سمع قوله تعالى: "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون - 14). ، فقد أثبت علم الأجنة الحديث أن العضلات (اللحم) تتشكل بعد العظام ببضعة أسابيع ويترافق الكساء العضلي بالكساء الجلدي للجنين، وفيها قال (كيث مور) أيضا: "من المستحيل أن يكون نبيُّكم قد عرف كل هذه التفصيلات الدقيقة عن أطوار تخلُّق وتصوُّر الجنين من نفسه، ولابد أنه كان على اتصال مع عالم كبير أطلعه على هذه العلوم المختلفة، ألا وهو (الله).
إن الذي يقرأ في هذا الكتاب المسطور سيرى كل آية من آيات الكون المنظور (مكتوبة) كما هي في الواقع كأنها رأي العين، لا تُخَطِّيءُ آيةٌ آيةً، ولا ينقضُ دليلٌ دليلًا، وسيستدل من صدق آيات الكتاب على حقيقة آيات الكون وأنه لا شك مخلوق لله، والناظر كذلك في آيات هذا الكتاب المنظور (الكون) لن يستطيع أن يُثبِتَ إلا أن هذا القرآن منزَّلٌ من عند الله، فكيف له أن يشرح آيات هذا الكون العلمية بهذه الدقة العجيبة التي يعجز العقل البشري أن يحصيها بهذا الإحصاء، ويفصِّلها بهذا التفصيل بالإضافة إلى ما فيه من إعجاز النظم والبيان واللغة التي تحدى بها أهلها من العرب، وأعجز بها بيانهم وأقرَّ كثير منهم بما له من العُلُّو الذي لا يدانيه عُلوٌ، وأنه ليس من قول بشر وأخبتت له قلوب كثير منهم كما أخبتت قلوب العلماء المنصفين لها بعد ذلك، "بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ" (العنكبوت - 49). ومن بديع التصوير الشعريّ لهذا الإعجاز قال الشاعر العباسيّ أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظــــــــــر
إلى آثار ما صنع المليــــــــــــــــــكُ
عيون من لجين شاخصات بأبصار
كأنها الذهب السبيـــــــــــــــــــــــكُ
 على قصب الزبرجد شاهـــــــدات         
بأن الله ليس له شــريــــــــــــــــــكُ

 

تعليق عبر الفيس بوك