علي بن كفيتان
جلستُ مع أحدهم ذلك النهار، وهالني الكم الهائل من النقد الذي لم يستثنِ منه أحدًا في هذا الكون، حاولت أن أستجمع قواي لفهم ما يرمي إليه، لكنني أُصبت بالغثيان، وصِرت أزعزع رأسي روحة وجية، بعد أن أصاب لساني الإعياء من ترديد كلمة: نعم... نعم، وبعد نقاش عقيم من جانب واحد استمرَّ عدة ساعات، حاول أن يضرب معي موعدًا آخر في المساء، لكنني تحجَّجت بالكثير من الارتباطات علِّي أنفك من هذا الكائن الذي لا يجيد إلا رسم الصور المفعمة بالتشكيك وشيطنة الآخرين.
من الصفات النادرة لهذا المخلوق فهمه لكل شيء، فيرسم لك المبررات، ويجذب لك صورَ الاقناع، وينسج لك الخيالات، حتى تكاد أن تصدق ما لا يُصدَّق. جرنا الحديث إلى شؤون تتعلق بلغات الجنوب العربي، وشدني اطلاعه بحيثيات الموضوع، فانحدر بالنقاش من العام إلى الخاص، وسرد لي حصيلة معارفه التي لا تنتهي عن اللغة الدارجة في ريف ظفار؛ فمرة ينسبها شحرية وأخرى جبالية، ومن ضِمن الفرص النادرة التي أتاحها لي الرجل سؤال طرحته عليه؛ وهو: لماذا هذا التعريف المزدوج للغة؟ فتمرد كعادته وتنكَّر، وحاول تغيير الموضوع، لكنني حاصرته هذه المرة حتى كاد أن ينطق الحقيقة، لكنه ابتلعها في آخر لحظة.
من المؤسف حقاً وجود هؤلاء بيننا، خاصةُ إذا علمنا أن الكثير يستمع لرواياتهم التي لا تخلو من بث سموم الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد؛ فهم يتجاهلون الحقائق ويطمسون الهوية ويؤلفون تاريخًا من نسج خيالاتهم. وعند عودتي للمنزل، فتشت كعادتي بين القنوات التليفزيونية للاطلاع على آخر الأخبار، وإذا بقناة الجزيرة الوثائقية تبث برنامجًا عن الكتابات والنقوش في ظفار، وضيف الحلقة الباحث الأثري علي بن محاش الشحري، فقلت في نفسي: يا لها من صدفة عجيبة؛ فالباحث اجتهد لتوثيق إحدى صفحات الحضارة الإنسانية، وحفظ الكثير من الآثار والنقوش، وبوَّبها داخل غرفة في بيته الخاص على هيئة متحف مصغر لم يكتب له أن يرى النور بعد، وهالني الكم الكبير من الموجودات المكتظ بها المكان.
في هذه اللحظة، عاد بي الزمن إلى بداية الألفية الثانية عندما كُلفت بمرافقة فريق من علماء البيئة والآثار إلى جُزر الحلانيات، وكان على رأس البعثة عالم الآثار الإيطالي المشهور توزي، وهو رجلٌ ضخم البنية، لكنه شغوف بالدراسة والبحث في كل التفاصيل. مساء ذلك اليوم، تقابلنا في الفندق لنخطط لرحلة إلى الجزر، وبالصدفة المحضة كان لقائي الأول بالباحث علي الشحري مؤلف كتاب "لغة عاد"؛ فعلى ما يبدو أنه حضر للقاء رئيس البعثة، وعلى الفور ومن باب المجاملة، أهداني مشكوراً نسخة عربية من كتابه، بينما كان يقدم أخرى لعالم الآثار الإيطالي مع شرح عميق استمر حوالي ساعة.
في تلك الليلة، قرأت معظم ما جاء في الكتاب المطبوع بشكل فاخر في هيئة مجلد مدعوم بالصور والخرائط الملونة، وبغض النظر عن الإسقاطات البسيطة التي مُنحت أكثر من حجمها، ونالت حظها من النقد الأدبي والتاريخي، فإنَّ الجهد جدير بالإشادة؛ كون الباحث عَمل على تصنيف حروف واحدة من أندر اللغات المهددة بالزوال من جنوب الجزيرة العربية، وما تم تجميعه من نقوش داخل كهوف ظفار يعد توثيقاً نادرا لحضارة كانت قائمة في هذه المنطقة، لديها كتابات وحياة اجتماعية واقتصادية وسياسية سُطِّرت على جدران الكهوف.
وحسب ما ورد في الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة الجزيرة، وألقى الضوء على الموضوع، فإن هناك حاجة ماسة لفك شيفرة هذه اللغة، بعد أن تم تجميع حروفها. وفي الوقت ذاته، لم يعد مبرراً أن يظل هذا الجهد حبيس جدران غرفة صغيرة داخل بيت الباحث، ولدي ثقة كبيرة أن الفريق المشرف على التراث والثقافة بمحافظة ظفار، سيجد حيزاً مناسباً لِمَا تم تجميعه بعيداً عن الجدليات العقيمة حول تسمية اللغة أو ربطها بأقوام دون غيرهم.
----------------------------
نقطة نظام: رغم أن النقاش مع هذا الرجل كان عقيمًا وغير مجدٍ، إلا أنه قادني لمعرفة عمق النكران الذي يَكْمُن داخل هذه العقول الضحلة تجاه أي عمل إنساني مبدع.
alikafetan@gmail.com