حاتم الطائي
ظل "الإرهاب" تهمةً فضفاضةً ومفهومًا مُبهمًا، لاعتباراتٍ عديدة ما زالت غامضة، وأقصد هنا الإرهاب كمصطلح تُعَدُّ له قوائم سوداء يُدرج عليها أشخاصٌ من هنا وهناك، مختلفون في الانتماءات والتوجُّهات. إبهامٌ وحالة من عدم الوضوح، وسط انشغالٍ كبير -ليس على مستوى القيادات فحسب، بل ومجتمعيًّا كذلك- بمِنَ تمت إضافتهم على هذه القوائم، ومن تمَّ رفع الحظر عنهم، مع انحسار في الخطوات العملية والجماعية المُؤثرة على أرض الواقع للقضاء على هذا الوباء اللعين، تجفيفًا لمنابعه؛ ومعالجة لمسبباتِه التي تَقتلُ طُموح شابٍ في مقتبل عمره ليرتدي بعد عملية غسيل دماغ ممنهجة حزاماً ناسفاً، ويفجر نفسه وسط مجموعة من الأبرياء المستضعفين.. جُنون وفكر ظلامي عقيم يعشِّش في أذهان خوَّلت لنفسها تمزيق أجساد البشر، ونشر سموم الكراهية، وتأجيج نيران الفتن، وفق أجندات خارجية تُملَى من خلف الكواليس.
أقولُ ذلك في وقتٍ تُروِّج فيه بعض وسائل الإعلام لمُحاولة يائسة لإدراج أول عُماني على واحدةٍ من تِلْك القوائم، وإلى أن يبين مدى صدق وحُجة الموضوع من عدمه، لا يبقى أمامنا سوى تحليل نقطتيْن أساسيتين؛ أولاهما: الطريقة التي تمَّ بها نشر الخبر والعناوين التي حملتْ كثيرًا من التحامُل سواءً للبحث عن أكبر مُعدَّلات قراءة لا أكثر: "عُماني يقتحم قوائم الإرهاب!"، أو لأهداف خفية في محاولة خاسرة لزعزعة استقرار علاقات تعاون وثيق مع أخوة أشقاء، كما بدا في عناوين على شاكِلة "محاولة لشيطنة عُمان"، فضلا عن التعليقات المتباينة والتي وإن كانت في عمومها تنسف فكرة الخبر مُمجِّدَة ومؤكدةً ومُستندة لنهج الحكمة العُمانية المتفرِّد، إلا أنَّ البعض الآخر منهم بدوا وكأنهم مشحُونون ومُتأهِبون سلفاً، ينتظرون أي شاردة أو واردة ليجتثُّوا فيها جذورَ التسامح العُماني والتصالح النفسي الذي يعتمل في صُدور أبناء عُمان!!
إنَّ رسالة عُمان إلى العالم هي النقطة الثانية في هذا الخصوص، تلك الرسالة المتجذرة في عُمق الشخصية العُمانية منذ قِدَم التاريخ، رسالة تماهتْ وانسجمت فطريًّا مع قيم ديننا الحنيف، تعكسُ انسجاماً داخليًّا، وإيمانًا خارجيًّا عميقًا بمبدأ التعايش السلمي؛ تعزيزًا للمشترك الإنساني، وتدعيمًا لروح التفاهم. لذا؛ لم يكن من قبيل المصادفة، حصول السَّلطنة على درجة "صفر" في المؤشر العالمي للإرهاب -وقت ذُروة اشتعال المنطقة بالأحداث (2015م)- بل هو في الحقيقة إنجاز نوعي لسلسلة مفاخر شعبنا وقيادته الرَّشيدة، يؤكد سلامة التدابير التي تتخذها بلادنا لمنع تسلل آفات التطرف والتعصب الطائفي إلى مكونات نسيجنا المجتمعي المتماسك، بإجراءات تتناغم مع الجهد الدولي لمحاصرة تلك الآفة؛ تتويجًا لمسيرة تاريخية لإرساء وتجذير ثقافة السلام والوئام، ونزع فتيل الصِّراعات والخلافات، ووأد شرارات الحروب؛ بغيَّة ترسيخ دعائم الاستقرار في ربوع المنطقة والعالم ككل.
لقد حصَّنت هذه المنظومة القيمية أبناء عُمان من الوقوع في براثن موجات التطرَّف، التي اجتاحت عَالمنا العربي على مدى عقود عديدة؛ الذين أدركوا مبكرًا قيم العدالة، أناسٌ مقتنعون بأنَّ غاية رسالتهم الإنسانية والدينية إشاعة الخير والرحمة والتسامح بين الجميع؛ بعيدًا عن رماح التطرّف المسمومة؛ فجنَّبوا العالم وجنَّبوا وطنهم ويلات الإرهاب وشروره.. فالعُمانيون يؤمنون بأن معركتهم الأساسية هنا لا في جبهات الحروب بالوكالة، هنا وليس هناك؛ في بناء الوطن، تذليلًا للتحديات وإيجادًا للفرص واستثمارها من أجل البناء؛ أناس يعرفون جيدًا معنى الانتماء، والعمل لما فيه خير الجميع، أسوياء لا يفهمون دينهم في إطار أيديولوجي أو طائفي ضيِّق يحاربون به المختلفين، يؤمنون بالتسامح والمحبَّة، لا يُعادُون ولا يُجرِّمون، ترجمةً لبُعد استشرافيٍّ سامٍ لمولانا حضرة صاحب الجلالة بأنَّ "التطرف مهما كانت مُسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته.. نباتات كريهة سامة ترفضها التربة العُمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبداً أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق"، فكسبوا بذلك تقدير واحترام العالم أجمع عن استحقاق وجدارة.
ويبقى أن أقول: إنَّ هذا العالم من حولنا بظروفه المتقلبة، وباعتبارنا جزءًا أساسيًّا فيه، علينا أن نظل أوفياء للعهد، أمناء على ما استحفظنا عليه أسلافنا، نتمسَّك بقيمنا، ولا نلتفت لمن يريد أن يفت في عضد وحدتنا وانسجامنا، خدمةً لنهضتنا، وقطع الطريق على محاولات عزلنا عن إرثنا القيمي الخالد، أو الانسياق خلف المغريات المشبوهة وأبواق الفتنة التي تستهدف استقرارَ ونماء هذا الوطن العزيز.