الثقـــافـــة العجـــوز

جمال قيسي - بغداد


يعتصر قلبي ألماً كلما حضرت محفلًا ثقافيًّا على اختلاف جنسه سواء أكان شعرًا أو محاضرة أدبية أو فنية لأن معظم رواده أصغر من فيهم سنًا تخطى الأربعين من عمره نوع من الاستعراض البائس المثير للشفقة بعضهم  متمسكين بأزياء وألوان وحركات غادرتهم منذ عقود ويوشي المناخ العام إلى نوع من المشاعر المصطنعة هيستريا  الفزع  من الشيخوخة مغلّفة بلياقة هذا من أطال شعره وآخر من تفنن بقصيبة على شكل ذيل الحصان مع أصباغ بائسة لتخفي الشيب.
تشعر بالألم لهذا الوجع الإنساني وهذا التشبث الفوضوي بمرحلة عمرية أزفت بلا عودة وأخص الرجال بهذا الأمرلأني أعتبر أن زينة الرجل الحقيقية هي النظافة ليس إلا.
كل هذا غير مهم إزاء الصنعة؛ صنعة الثقافة ربما تراكم العمر والتجربة هي عملية نضوج للتجربة الأدبية، أنا أتكلم هنا عن عادات وبنيات وأنماط ذهنية، وعن مفارقة للواقع المأساوي  لقد كان ماركس وتروتسكي وغرامشي ولوركا وكامو وسارتر وفوكو  وكولن ولسن  وإليوت وكافكا وجويس والآلاف من المبدعين في قمة شبابهم عندما أبدعوا وغيروا وجه العالم.
وكان السياب والبيَّاتي وسعدي يوسف ونازك الملائكة، وأودونيس والقباني والشّابي والجواهري وصلاح عبد الصبور وطه حسين في عمر الشباب عندما شرعوا في خطابهم  المتميّز.
الفارق في الغرب أن المحافل الثقافية في ديمومة  بعملية الإبداع بدماء جديدة لم تتسمر مثلما يحدث عندنا معظم محاولاتنا التجديدية تم احتوائها من قبل المحيط العام لثقافتنا ومن ثم تحجيرها في متحف استمنائي، وببساطة حتى نمسك بالأمر علينا  أن نعرج على مفهوم الثقافة والهوية، لننتقل بعدها على عملية صنع الخطاب التغييري وضرورة تبنيه من قبل الشباب وتنازل العواجيز عن المجد الزائف.
هناك قاعدة أساسية ينطلق منها هذا المقال وهي أن الواقع الاجتماعي والتاريخي هو الإطار المحيطي الذي يتحرك بداخله الواقع الإنساني بصورة ديناميكية وتغييرية وبمعنى أبسط. إن حركة الأفراد بحكم دينامكيتها تخلق الإطار العام؛ أي تصنع التاريخ والتركيب الاجتماعي وعكس ذلك عندما تتصلب الأطر الاجتماعية والتاريخية تقمع حركة الأفراد وهو ما سنتبينه لاحقًا.
في تشخيص دقيق لوظيفة الثقافة يحدد "كاميلري"* نوعين من الثقافة:
الأولى هي ثقافة المجتمعات التقليدية: إذ تتميز المجتمعات التقليدية بتطورها البطيء  نتيجة بطء تغير المحيط  - وبما أن الثقافة هي في المحصلة الإجابة  التي يقدمها الإنسان على وضعه - مما يجعل تكويناتها الثقافية تميل إلى التكرار، فالقيم التي تكرسها تظل فعالة في تحقيق الانسجام بين الجماعة ومحيطها وتترسخ هذه القيم وأنماط  الوعي والسلوك أكثر بفعل الزمن، كما تخضع لقدر عالٍ من التقنين، وتستقر في اللاوعي الجماعي لهذا نجد المجتمعات التقليدية تبجِّل القديم  وتقدر حكمة المسنين، وتمنحهم سلطة تستمد شرعيتها من الذاكرة. وفي هذا النمط من المجتمعات، تحدد الثقافة الهوية كليًّا إلى درجة التطابق حتى إن سؤال الهوية والوعي به لايطرح أساسا.
والآخرى هي ثقافة المجتمعات المصنَّعة: وتخضع هذه المجتمعات لتغيرات دؤوبة في المحيط، بحيث لا يجد الفرد في ثقافته إجابات نمطية جاهزة لكل المواقف والوضعيات التي يتعرض لها مما يدفعه إلى ابتكار أجوبة جديدة بغية التكيف مع محيطه، وفيما يخف ّ الضبط والتقنين لأنماط الفكر والسلوك؛ بل تتنوع وتتعدد هذه الأخيرة نتيجة لتقسيم العمل المتزايد، فتظهر عدة ثقافات فرعية قد تنحو نحو التكامل المنطقي، لكنها قد تتبلور كذلك إلى درجة التعارض أحيانا فيما بينها وبهذا تكف الثقافة عن كونها نظام اندماج شامل لتصبح  مجرد فضاء مشترك يستوعب ثقافات فرعية كثيرة  وتمنحها الإمكانية  العضوية (البنيوية) لبلورة تكوينات ثقافية على قدر كبير من المرونة والابتكار. وفي هذا النمط من المجتمعات يتبع الأفراد والجماعات الفرعية عدة استراتيجيات لتشكيل هوياتهم عن طريق انتقاء العناصر الثقافية التي يتماهون معها، بما يتوافق وتحقيق الوحدة بين حاجاتهم الانطولوجية  وحاجاتهم البرغماتية.
يؤكد " كاميلري" على حقيقة هامة مفادها أن النموذج الثقافي التقليدي لم يعد له حضور تقريبا في عصرنا الحالي، ذلك  أن المجتمعات التقليدية قد تعرضت إلى مثاقفة شديدة أفقدتها الانسجام الشامل الذي كانت تضمنه لأفرادها بين حاجاتهم الانطولوجية ومقتضيات التكيف مع المحيط من جهة، ومن جهة أخرى أكسبتها خاصية النموذج الثقافي الحديث، المتمثّلة في الإمكانية  العضوية للقيام بعمليات تماهي.
بعبارة أخرى: لم تعد الثقافة التقليدية تحمل أجوبة لمستجدات العصر لذا على الجماعات وعلى الأفراد كذلك أن يطوروا ثقافتهم وأن يكونوا قادرين على ابتكار أجوبة  للوضع الجديد الذي نسف اليقينيات القديمة.
إذن علينا بتجديد الخطاب على أن تكون قاعدته الشباب؛ نعم نحتفي بتجارب الرواد، لا أن نجعل منها تابوهات وغرانيق. الشباب وروحيته  بحكم البنية البايولوجية هم الأكثر استعدادا لعملية التغيير، ولنا في تاريخنا الأساس الجوهري عندما قامت الدعوة  المحمدية في بدايته كان الشباب قوامها الشباب. وواجبنا  الآن نحن الشيوخ أن ندفع الشباب إلى الإمام، ولا نبخل  بعطاء، و لا ننشكل عائقًا أمامهم.
...................
*عالم اجتماع فرنسي Carmel Camillere كارميل كاميلري

تعليق عبر الفيس بوك