هنـــا.. وهنــاك

إدريس حنابلي – فاس - المغرب


على حافة الحلم كان الملتقى؛ لقاء لم يقترفه أحدهما عن سبق إصرار وترصد؛ وحده القدر يجيد رقن الحكايات وحبك المصائر، وقد يتوارى هناك باسما ينتشي يتيح مجالا لبراءة الطفولة؛ عندما نحل أول يوم بالمدرسة ونجدنا بين أربعة جدران وتحت سقف واحد بين مخلوقات تشبهنا وأرواح ركنت على الحائط ولم تقترف جريمة؛ وهذا الوحش البالغ الذي يتدثر بالبياض مرة أخرى؛ أليست من جمعتنا به هنا أيضا ساحرة يلقبونها صدفة؟ وهذا الطفل الكبير يتسمّر عند بوابة المقهى الصغير كفارس قبيلة عاد من فنائه يتأهب عائدا للقتال؛ أية مهانة وأي حنق يستبد بنا حين نغادر فضاءاتنا الرحبة؛ حين تغتصب براءتنا  يتسلل من بين أيدينا كألوان الطيف ربيعنا الأغرّ؟ إنّه ربيع الطفولة!. كالرجل الخفاش يتزيّا  بقميص صيفيّ بدا فيه وكأنه ارتداه خلسة وأفرد ساقيه للريح؛ على غفلة من شقيقه الأصغر..تداعب أنامِلُهُ سيجارة ويدُه اليمنى بين فينة وأخرى تنتصب للمرافعة.. وهذا الكهل الغامض الذي يشبه الضباب يغوص في الكرسي يتظاهر بالإعياء؛ ينفث عمود دخانه بين فينة وأخرى يستثيره شيء مستجد وكأنه مريض غاب عن الوعي واللحظة قد حضر.. تحت حافة قبعته تلوح لك عينان تجتمع فيهما كثير أشياء؛ ربما أقوام من هنا وهناك؛ أسطورة أمازيغية، حكاية رومانية، قصص غجرية، وطلقات رصاص تمزق أستار الصمت هناك في صحاري غرب أمريكا، ومحنة المسلمين واليهود في بلاد الأندلس والأفول إلى الجنوب والمجهول !.. كانت نظرة واحدة يرسلها في اتجاه الشاب الحانق والحزين توحي لك بكل هذه الأشياء مجتمعة؛ يتأمل هذا الطفل الشاب وينصت إليه كشيخ مولع بالشاي مأخوذ  بموسيقى السماع، يُذَكِّرُه هنا بالطفل الذي يسكنه من أمد بعيد يأبى الرحيل.. حين غادر القرية ذات مساء؛ وظل يحدق في السيارات العابرة في انتظار حافلة تقل حبيبة تقل عزاء ولذيذ أمنيات..يحضره كيف مال عليه المعلم بنظرة حانية ندية وشيء يلوح منهما يشبه الشرر وقال: إذن؛ هي لحظة الفراق قد أزفت؟..لم يكن للطفل خيار؛ هي أسابيعه الأخيرة قبل انتقاله للإقامة والدراسة بحي هامشي بعاصمة الجهة- فاس- أما والداه فقد باعا قبل أيام بستان الزيتون وبيتا من تراب.._ إنك تغالي أيها الشاب؛ ربما هو منك سوء تقدير ليس إلا..صحيح أنك حصلت على شهادة عليا في علوم الالكترونيات وهم يحرمونك الآن من ممارسة لعبتك الأثيرة لك منذ الصغر لتصبح وحالتك هذه لعبة حياة أو موت. كذا أدلى الكهل الغريب بدلوه و أعقبها بابتسامة أطلت عقبها ابتسامة أخرى..ثم أعقب : ثم  إن لك -على عكس ما رَمَوْكَ-  صوتا شجيًّا يليق بالإذاعة؛ قل لي بربك: هل يملك الربيع أن يتبرّأ من آذار؟..كيف حكموا وكيف تحكم؟ لا يا صديقي.. لا! ستكتشف أنك أخطأت هدفك وضيعت الفكرة.. فكرة الهجرة فكرة من يهديك سما في العسل؛ أي وطن يمسي حين يخاصمه الربيع ويرحل؟ ثم انظر أمامك إلى الربيع كيف ولّى من هناك وأدبر؛ حين أضعت معلّمي هناك على حافة الطريق وضِعْت؛ كأني أراه فيك يحضر الآن فيك ليجدد اللقاء؛ وصلني بعد سنوات أنه غادر إلى الشمال الأشقر؛ كان يطارد حلمه كما ظللت أقتفي أثر حلم آخر؛ شيء يشبه وجبة مخدِّر يُلْقِمُنَا منها طبيب جرّاح؛ وبعيد لحظات وبضع كلمات عذبة تجدنا ننطلق في السفر..هي بغية واحدة و إن اتخذت لبوس أشياء أخر..بغيتنا أنثى بقدر ما هي حكيمة؛ مراوغة تجيد التخفي و نصب الشراك ثم تنهمك في الضحك المكتوم كما يفعل الأطفال. يدلي بدلوه رجل يشبه الطيف على يمين رجل الضباب: أيها الشاب ربما عليك المغادرة - كذا قال الرجل الطيف- وأردف :  أشعر أن رفقتك ليست كما يجب؛ لو سمحت تنحّ إلى الأعالي؛ فهناك ما يكفي من الهواء؛ هواء طازج يملؤك بالحياة. تراه من يكون شبح رجل للتو قد حضر؟..أوّاه إنه صديقي الأثير!..أواه؛ كيف أضعتك قبل أن يقودك الموت للسفر! كيف يطيب لك الآن جرحي و يحلو لك العتاب؟؟.
  بوجه تعلوه ابتسامة ظفرٍ ويدٌ امتدت لتصوب حافة قبعته الثائرة؛ تقدّم الشاب الواعد ليؤدي فريضة الوداع ثم أرسل ابتسامة أخرى كأنه يلعب دور صبيّ شارد في الفصل يخشى العقاب - سؤالي الأخير لك يا صديقي رجل الضباب: هناك لا شك قد طال بك المقام في كثير من البلدان؛ هناك المال والمجد كما الشراب والنساء؛ ما الذي عاد بك بعد كل هذا الغياب؟  ماذا دهاك لتغادر فردوسي المفقود؟؟..تطلّع إليه برهة و أجاب :  كنت ضائعا هناك دونك..فتشت طويلا؛ والآن هنا قد وجدتك!.

تعليق عبر الفيس بوك