علي المعشني
صفقة القرن، وحلف بغداد، ومبدأ نيكسون (غوام)، والعدوان الثلاثي على مصر، ونكسة يونيو، وكامب ديفيد، والحرب العراقية-الإيرانية، واجتياح لبنان، وتدمير العراق وحصاره ثم احتلاله، وقضية لوكيربي، وحصار ليبيا، وصفقة أوسلو، وصولًا لما سُمِّي بـ"الربيع العربي"، والسعي لتدمير الدولة الوطنية بزعم الديمقراطية والحقوق والحريات، جميعها وما في حُكمها من تفاصيل وعناوين صغيرة أو كبيرة صفقاتٌ بأسماء مختلفة لإنبات شرق أوسط جديد بالقسر والإكراه، وتمكين العدو الصهيوني من الأرض والعِرض.
فمَن يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل، يعلم أن صفقة القرن اليوم ما هي إلا حلقة في سلسلة مهترئة وصدأة من المؤامرات على الأمة العربية، والتي ينتهي بها المطاف في مزبلة التاريخ، وتُدفن دون طقوس أو مراسم.
مُشكِلة عرب اليوم، وليس أعرابهم، أنهم يُعانون من أعراض الذاكرة المثقوبة، فهم يردِّدون في الغداة والعشي بأن وعد بلفور وسايكس بيكو مؤامرات لاحتلال فلسطين وتمزيق جسد الأمة الواحد إلى أقطار مجهرية تتكرس فيها لاحقًا الهويات الفرعية التشطيرية، ويجبرها الشتات والوهن على القيام بالدور الوظيفي الخادم للغرب ومصالحه، وفي المقابل يعتقدون أن الغرب قضاء وقدر عليهم لا يُرد ولا يُقاوم!
لن نخوض في التاريخ لأن البعض ما زال يترقب عودة صلاح الدين لتحرير الأقصى؛ كونه غير معني بهذا الشرف، فهو منغمس إلى أذنيه بكل مظاهر العلف.
من يقرأ تاريخنا السياسي كعرب في القرن الأخير من هذا العصر بعين الفخر وعقلية المؤمن بمناعة الأمة وقدراتها الخفية وضمائرها الحية، يعلم أن صفقات الغرب عبارة عن سلسلة لا تنتهي من الخيبات، وستلحقها صفقة القرن، ولكن صفقة القرن هذه لن تذهب وحيدة هذه المرة، بل ستبتلع معها أقواما وكيانات سادتْ ثم بادت كسُنن التاريخ ودول الأيام.
من يَقرأ تاريخ الصراع مع الغرب ويؤصله تأصيلًا حضاريًّا عميقًا، يدرك أن الحرب الكونية على سوريا العروبة حملتْ في يومياتها تفاصيل صفقات قرن مرعبة؛ لأنهم يدركون كامل الإدراك أنه لا صفقة قرن ستمر في ظل وجود نظام عروبي مقاوم في دمشق، وبما أن دمشق صنعت المجد وأهدته لحلفائها؛ فالمنطق يقول بأن صفقة قرنهم ستكون صفعة قرنهم؛ فالغرب وأعوانه اليوم في أوهن حالاتهم رغم بطولات أبواقهم، وعلو أصواتهم ومناوراتهم الهوليوودية التي لا تنقطع؛ فالعبرة بالنتائج على الأرض.
تقول الوثائق المسربة من أرشيف الإدراة الأمريكية -والتي رُفعت عنها السرية مؤخرًا- إن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون هدَّد رئيسة وزراء الكيان الصهيوني جولدا مائير بالقول: ساعدناكم بكل ما طلبتم من سلاح ومعدات ووسائل لمواجهة حرب أكتوبر مع العرب، ولكن اعلمي بأن تعنتكم وإصراركم على مواصلة الحرب يعني خروج عبدالناصر جديد سيقلب المعادلات والحسابات في المنطقة، فكما عاد عبدالناصر من الفلوجة بفلسطين، وقرر مع رفاقه تغيير النظام بمصر بعد رؤيته للهزائم هناك، سيعود ضابط مصري من سيناء يحمل ذات الانطباع والتفكير ويقوم بذات الفعل لعبدالناصر.
لا شك عندي أن نيكسون لو عاش لغاية اليوم، وشاهد أنتصارات حلف المقاومة منذ عام 2000م ولغاية اليوم، ستكون له نصائح أخرى لإدارته وحلفائه وأدواته في المنطقة ومن العيار الثقيل، حيث لم يعد عبدالناصر فزَّاعة للغرب ومصالحه في الوطن العربي، بل أصبح تيار عريض من الشعب العربي يقوم بهذا الدور، ويحقق الانتصارات ويرسم الواقع ويفرضه على الكبار.
معادلة نيكسون لجولدا مائير هي فرضية صحيحة على أرض الواقع، فكلما وهن النظام العربي الرسمي وخضع واستسلم، انبرى الشرفاء وحملوا مشعل التصدي والمقاومة في تجلٍّ واضح على مناعة الأمة وقدرة أبنائها على التضحية، رغم كل المظاهر الكاذبة على السطح من وهن وشتات وفرقة.
الحقيقة أن الغرب في قرارة نفسه يخشى من الرِّهان على حلفائه وأدواته في المنطقة، بل ولا يثق بهم؛ كونهم أدوات لا تمتلك الشرعية ولا القاعدة الجماهيرية، وتحكم أقطارًا تُعاني من جميع أعراض الاستقرار القلق، والذي يمكن أن يتغير في أي لحظة، والتاريخ العربي المعاصر مليء بالنماذج في العراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن.
كما أن تجاربهم في التطبيع -كامب ديفيد ووادي عربة- مُخْجِلة وغير مؤثرة، ولا تتعدى المجاملات والزيارات الرسمية، ولم تترسخ أو تتجذر لتنفذ إلى عقول الشعوب، وهو ما عبَّر عنه صراحة رئيس وزراء كيان العدو نتنياهو بالقول بأنهم بحاجة ماسة لعلاقات تطبيع مع الشعوب العربية أكثر من حاجتهم إلى النظم العربية.
لهذا نقول -وبكل ثقة بالله والأمة والتاريخ- بأن صفقة القرن لن تتعدى ألسنتهم وأوراقهم، وسيكون مصيرها كمصير حلف بغداد ومبدأ نيكسون والعدوان الثلاثي وحرب يونيو واجتياح لبنان واحتلال العراق وربيعهم المشؤوم، بل وستعود عليهم لتقتلعهم؛ فالمدنيات الزائفة والمزركشة لم تتغلب يومًا على الحضارات والكيانات الحضارية؛ فأبناء الحضارات نَفَسُهم عميق، وصبرهم عظيم، ونصرهم أعظم على الدوام.. وبالشكر تدوم النعم.
-----------------------
قبل اللقاء: يقول الزعيم حافظ الأسد: "لا توجد سياسة أمريكية في الشرق الأوسط، بل هي سياسة إسرائيلية تُنفِّذها الولايات المتحدة الأمريكية".
Ali95312606@gmail.com