أين حدود العلم


محمد عبد العظيم العجمي - مصر


يقول الإمام (الشعبي) : العلم ثلاثة أشبار، من نال الشبر الأول شمخ بأنفه وظن أنه ناله، ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدا ، ويقول العبقري أينشتين : "كلما ازددت علما أيقنت أنني ازددت جهلا ، ويخيل إلى أن الفرق بين أعلم عالم وأجهل جاهل بالنسبة للمعرفة المطلوب تحقيقها لا يكاد يذكر "، وكانت ماري كوري تقول :"أنا لا أرى أبدا ماتم إنجازه ، بل أرى مالم يتم إنجازه"، ونسب إلى نيوتن أنه كان يقول" أنا جاهل لا أعرف إلا حقيقة واحدة ، وهي أنني لا أعرف شيئا، ويقول: مانعرف قطرة وما نجهل محيط كبير".. هكذا رغم اختلاف الثقافات والأزمنة والأديان والأفكار يكاد كثير من أهل العلم يجمع على هذه الفكرة (القديمة الحديثة ) التي لم يختلف عليها أحد : أن حدود العلم التي يسبح فيها الخلق جميعا من لدن آدم وحتى قيام الساعة تكاد تكون (جد) محدودة بالنسبة لمجمل العلم والحقائق المنثورة في الكون المنظور (بصريا أو علميا) وهو العلم المتاح للبشر أن يطرقوا أبوابه ويطابقوا نظرياته الكونية والعلمية ، والذي هيأ لهم الخالق (جل وعلا) أسبابه وأمرهم أن يسيروا في مناكب الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق ووجد الكون ، وكيف قامت السموات والأرض والفلك والنجوم والكواكب، وقد جعل لهم العقل وجعل فيه فضول العلم ولم يحدّ لهذا الفضول حدودا ، وإن كان قد جعل للعقل طاقة وحدا لا يكاد يجاوزه أو لا يستطيع، وبالعقل يبلغ الإنسان علم ما لم يعلم ، وبالجهد والبحث يفتح الله له من الأسباب والمكنونات ما كان مغلقا على العقل وعصيا على الفهم ، فإذا بذل الإنسان وسعه فيما يطلب، بلغه الله معرفته ، فالله تعالى حين أراد أن يسجد الملائكة لآدم (كخليفة في الأرض) لم يشأ أن يأتمروا بالسمع والطاعة كما هم مفطورون عليه فقط (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)،الأنبياء، إنما أراد سبحانه أن يؤكد لهم عظمة هذا المخلوق الذي اصطفاه وفضله، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضها عليهم فسبحوه حيث لا علم لهم إلا ما علمهم ، ثم جعل آدم يخبرهم بالأسماء التي علمها إياه،  فأذعنوا للحكمة وأقروا بالفضل ..
هكذا جعل الله فضل الإنسان في بداية خلقه على الملائكة ومن سواهم بالعلم ، وكذلك جعل به التفاضل بين درجات البشر ، وجعل القربى إليه سبحانه لا تكون إلا من باب العلم، وهذه الأسماء التي علمها آدم هي نفسها هذا العلم المنثور في الكون المبثوث في كل ذرة من ذراته ، والذي يبحث عنه الإنسان ــ حين يبحث ـــ كأنما يبحث عن شيء مما قد أودع في فطرته الأولى ليجده في ثنايا الكون المنظور والمقروء، وكلما اكتشف بعضه كأنما وجد جزءا مما ركب فيه :
وتحسب أنك جرم صغير              وفيك انطوى العالم الأكبر
ولذا يسمى كل علم يوصل إليه بالبحث والدرس (اكتشافا) ، وهذا يعني أن الأمر لم يكن بدعا على الكون أو الخلق إنما كان أمرا موجودا، وأنه إثبات وجوده كان يستلزم من الإنسان هذا السعي الذي سعى والجهد الذي بذل ليعطى بعد ذلك ما يطلب.. إذا .. فالشفرة البشرية الأولى مطبوع عليها كل أسماء العلم التي يصدفها الإنسان في بحثه، ويجمعها من أطياف الكون ثم يصيغها في فروض ثم نظريات ثم تحققها التجربة العملية بعد ذلك فتصبح حقيقة علمية ، وهي إذا تلك المطابقة بين علم مفطور (علم الأسماء كلها) في الإنسان ، وعلم في الكون منشور لا يكادان يلتقيان حتى يتفقا ويقر أحدهما بصدق الأخر وأحادية مصدره، وأحدية الخالق إلا أن تنتكس الفطرة ، وترد على أعقابها.
إذا .. فالعلم المتاح في الكون أن يبلغه الإنسان هو الذي أخبر عنه القرآن " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" الإسراء. وقد جاء التعبير هنا بلغة الماضي ليشمل كل علم حتى قيام الساعة ، ويدخل ضمن (القليل) ، وإذا كان هذا هو المتاح معرفته للبشر أن يبلغوه وماهم ببالغيه كله، فكيف بالمحجوب عنهم وهو علم الغيب الذي لا يظهر عليه أحد من خلقه إلا القليل وعلى القليل. وكما سبق من قول أينشتين :أن الفرق بين أعلى درجات العلم وأدناها بالنسبة لكلية العلم لا يكاد يذكر، أي لا يكاد البشر حتى نهاية الكون أن يكونوا حصلوا من العلم شيئا إلا القليل ، وهذا هو محض المعنى القرآني وإن كان لم يبلغ هذا العالم ولم يؤمن به ، إلا أن الحكمة الإلهية أنطقته لأنه بشر ممن أوتي شيئ من العلم الذي أودع في الأصل الأول (آدم)، فقد جاء لسان حاله ينطق بمعنى الإيمان والقرآن ويقر بالحقيقة الإلهية التي اقتضت ألا يكون حظ الإنسان من العلم إلا قليلا ، وإن شاءت الحكمة الإلهية ألا يهتدي به فهذا أمر مرده إلى الله ، وهنا نقف عند حقيقة أخرى مفادها: أن الله قد أتاح هذا العلم للبشر جميعا (بارهم وفاجرهم، صالحهم وطالحهم ، مؤمنهم وكافرهم) لأنه قد جعل لكسبه أسبابا وطرقا ، فمن سلك هذه الطرق وأخذ بهذه الأسباب من الله عليه على قدر ما بذل، وهو أمر ربما يحتاج إلى بذل النفس ، ولا يرضى أحيانا إلا بكل العمر حتى يمن عليك ببعض العلم ،
وقد عاينا من واقع الحياة ماجعلها تمنح نظريات العلم وتقنياته لأمم ليست مؤمنة ، إنما فقط أخذت بأدوات العلم وقامت بحقه الذي ينبغي أن تؤديه فأعطاها العلم من معطياته ما جعلها في مقدمة العالم ، تقود قافلته العلمية والعملية إلى حيث تريد أن توجهها ، وما تراه يحقق مصالحها وإن كان فيه دمار البشرية وهلاكها ، ومفاد ذلك أن العلم قد يحمل في ذاته دواعي الشر والخير معا، والدمار والبناء، والفساد والصلاح، حسب ما يوجهه الإنسان وحسب من أوتي هذه المفاتيح والأسباب، ولذا كان حتما على أهل الإيمان أن ينذروا أنفسهم وأرواحهم لتحصيل العلم ولا يدعوه لشرار الخلق فيهلكوا الحرث والنسل ويفسدوا في الأرض ، إنما ينبغي لهؤلاء المصلحين أن يقبضوا على زمام العلم فيقبضوا به على زمام الحياة ويوجهوا وجهتها إلى ما فيه خيرهم وخير البشر..
ولقد ضرب القرآن لنا عديدا من الأمثلة التي أوتيت العلم ، وابتليت بأن ملكت أسبابه التي تستطيع أن تغير بها كثيرا من واقع الحياة ، فكانت نفوسهم كدأب النفس البشرية المعهودة ، فمن مغتر متسلط ، أو متكبر متجبر لم يعرف قدر النعمة ، ولا شكر من أنعم بها عليه ، ولا رد إليه أمرها ، إنما رد الفضل على نفسه فقال: " إنما أوتيته على علم عندي" ، ثم "خرج على قومه في زينته" فكان جزاؤه " فخسفنا به وبداره الأرض" ، وهذا الذي من الله عليه بالاسم الأعظم فكان مثله " كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" ولم يغن عنه ما أعطي شيئا ، أما موسى (عليه السلام) فنسي ونسب العلم لنفسه فأراد الله أن يؤدبه بأدب الأنبياء ويعلمه أن يرد العلم إلى العليم الخبير، فبعث الله إليه هذا العبد الرباني الذي علمه الله من (لدنه) وهو علم من الغيب وحكمة القدر التي لا يطلع عليها إلا من أراد (هو) ، ثم شمل هذا العلم بالرحمة حتى لا يودي به إلى الغرور أو البطر " آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"الكهف، فكان من أمره مع موسى ما كان ، ثم قال لموسى عليه السلام: إن علمي وعلمك وعلم من في الأرض من لدن آدم حتى تقوم الساعة إلى علم الله كنقرة العصفور في البحر .
وهذا يوسف عليه السلام يعلمه الله من تأويل الأحاديث وهو في غياهب السجن ، ويعلمه حفظ خزائن الأرض"إني حفيظ عليم"، حتى يصبح على عرش مصر ، فلا يزيده هذا إلا تعلقا بمقام الربوبية الذي علمه ويرد الفضل إليه " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطرالسموات والأرض أنت وليي في الدنياوالآخرة توفنيى مسلما وألحقني بالصالحين" يوسف.
إذا فمنظومة العلم واحدة، مبدؤها من الله العليم الخبير ، ومناطها الإنسان، ومجالها الكون والإنسان، ومنتهاها إلى العليم الخبير، فمن أخذ بهذا الحظ من العلم ، ومٌنّ عليه بشيء منه، ثم تنكب عن الطريق فلم يستطع أن يرد الفضل لصاحبه ، ولا يصل بالعلم إلى منتهاه الذي ينبغي أن يصل به إليه، فقد ضل عن الطريق وحاد عن الصواب ، وكان العلم عليه نقمة ووبالا، ومن لزم الفطرة السوية وسار معها حيث تسير، فتعلم العلم وعمل به وعرف حق خالقه فيه فقد حاز خيري الدنيا والآخرة .
وإذا كان الإنسان لا يزال يسبح في بحر(القليل) حتى نهاية الكون ، وقد علم حقيقة ذلك من واقع البحث والدراسة العلمية والأكاديمية فضلا عن إخبار القرآن له ، وعلم أنه لا يستطيع أن يجمع أيضا من القليل إلا القليل ، إذ لم تبلغ البشرية إلى الآن ــــ رغم امتداد الزمن ــــ  من العلم المتاح شيئا يذكر ، فكيف بما هو محجوب عنه من أمر الغيب ومن علم مالم نطلع عليه ولن نستطيع إليه سبيلا؟!!
ولذا كان لا بد للعلم من حاد يحدوه ، وقائد يقوده حتى يكبح جماحه ويرده إلى مرده ـــ وهو الإيمان ــــ ، فإذا انفصل العلم عن الإيمان لم يتعد أن يكون إلا كما قال الله "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"الروم ، فمن لم يٌمن عليه بالإيمان مع العلم تخبط في الظلمات مهما علم ، وقد رأينا في حقب التاريخ من صاغوا للبشرية أعقد النظريات ، ووضعوا لها أسس العلوم ، ثم فارقوا الحياة معرضين أومعاندين أو مشوهي الإيمان ، يكتفون أحيانا بالإقرار لله بالخلق والعظمة ، ثم لم يصرفوا لهذا الخالق شيئا من العبادة تترجم هذا الإيمان، أو يهتدوا معه إلى شرعة يٌتعرف بها عليه، إنما كان إيمانهم ذلك محض إقرار وإذعان للحقائق العلمية وفقط، ولم ينتقلوا من مرحلة العلم التجريبي إلى علم الشرع والنقل ليتعرفوا على حقيقة من عرفوه من خلال عقولهم وتجاربهم ونظرياتهم في الكون، ولم ينتقلوا من الإيمان القلبي إلى إيمان العبادة والعمل، ولم يكن لهم من عطاء العلم إلا ذكر التاريخ، وقد رضوا من حظ الحياة بالثمن البخس ومالهم في الآخرة من نصيب .
فهذا (دارون) يقول: "لم أنكر أبدا وجود الله، وأعتقد أن نظرية التطور متماشية تماما مع الإيمان بالله ، أرى أن أهم دليل على وجود الله هو استحالة إثبات وفهم أن الكون الهائل الذي لايمكن قياسه والإنسان هما نتاج الصدفة "، وهذا (إديسون) يقول: "أكن أقصى الاحترام والإعجاب للمهندسين جميعا، وبشكل خاص لأكبرهم (الله)" ، وهذا اينشتين يقول:" من يعمل بشكل جدي في المجال العلمي يصل إلى الاقتناع بأن قوانين الكون كافة تثبت وجود روح أكبر بكثير من روح الإنسان علينا جميعا الشعور أمامه بالصغر"، وهو ملخص قول القائل :
وفي كل شيء له آية          تدل على أنه الواحد
إن المعنى السابق من أقوال العلماء هو خلاصة الفطرة الإنسانية التي تقر بكل ذرة من كيانها بنسبة العلم إلى العليم ، وكذلك خلاصة ما أثبتته عملية الاستقراء الكوني واستنطاق الطبيعة التي أقرت كل ذرة منها كذلك على أحادية المصدر والمنتهى ، فكيف يحيف العقل البشري بعد ذلك في هذه القضية، أو يرتضي أن يسير عكس منظومة الخلق الفطرية والكونية ؟!!
 

 

تعليق عبر الفيس بوك