ســـور الياسمين


عبير السيد - فلورنس

 
 بينما تعزف الأمطار موسيقي  هادئة علي أجنحة زهور الياسمين البيضاء التي تحتضن سور الحديقة الكبيرة  كان المشهد غريبا وكأني اسمع صوت بكاء قلوب عارية .ولفيف أغصان بلا أوراق تتعانق من بعيد.   
امراءة في الخمسين من العمر، طفل في السادسة وفتاة شابه تشبه خصلات شعرها المموج وهي ترتفع مع الهواء البارد  كرقص أمواج البحر  تغازل أصداف الشاطيء.     
  علي مقربة  منهما  شاب  بجوار صناديق النفايات وبعصا طويلة يعبث لإخراج ما يجده مناسبا فيلتقطه  داخل السبت الكبير  فوق دراجة عتيقة وقذرة اعتلاها الصداء.
  .. يرفع رأسه بين الحين والآخر ليرمق  الصغير والفتاة بنظرات  هاربة من قبر لا تخبر بشيء....
هاجمتني بعض الذكريات القديمه كنت اظنها عديمة القيمة وسحبتني رغما عني  إلى الوراء علي بعد خطوات  من سور الياسمين مشهد  لصراخ هستبري مازلت اذكر" كان الخريف علي وشك الانتهاء وأوراق الياسمين   الصفراء الزابلة تلهو بلا قيد طليقة في هدوء الليل تمزج الهواء بأصوات حشرجة هادئة إلا أن الزجاج المحطم أحدث ضجة كبيرة وصوت صراخ المرأة صاحبه صوت رجل قاسٍ يلقي ببركان غضبه الحارق.. ثم هدأت الأمور بعد  الضجة الشديدة.
  نسكن معا في العمائر المختبئة نفسها بين أحضان  سور الياسمين  كحارس يحمي النوافذ  الأمامية والخلفية من كل جانب.. تري هل تسمع فراشات الياسمين كل شيء يحدث هنا، هل تعرف  الوجوة والقلوب أكثر منا   هل سمعت ما يحدث في شقه الجيران  وعرفت بينما لا يبالي أو يجرؤ أحد أن يعرف ما يحدث لجارة؟ نعم هيا تسمع كل شيء وتداوي القلوب بعبيرها  الذي توزعه علي نوافذنا بعدالة كم كنت أحبها؟
 عاد الصوت من جديد يشق ستائر الليل المظلم إلا من عبير الياسمين، ضوضاء  شديدة  وصراخ الفتاة الشابة  يكسر  القلوب إلا أن أحدا من السكان لم يتدخل إطلاقا وهكذا حال الجيران في هذة المنطقة؟ ففي الصباح طار الخبر علي أجنحة الكلمات معطرا برائحه الياسمين.. في الصباح تحولت رائحة الياسمين إلى همس بين المسنين والشباب.. إن  ابنة جارتنا  الطفلة الشقراء ذات الخمسة عشرة عاما تنتظر طفلا!! نعم تنتظر طفلا.. ليست هذه المشكله الحقيقية فهو شيء  قد يكون معتادًا في الغرب.. لكن الغريب حقا أنها تنتظر طفل من هذا الشاب القمحي ذو العيون السوداء والذي ينتمي إلى جماعات الغجر.. التي تعيش علي أطراف الحي في المنزل المهجور كساكنيه من المهاجرين.. كان زميلها  في المدرسة إلى أن أخرجته عائلته ليعمل معهم في جمع القمامة ولممارسة نشاطهم الغريب في التسول  بملابس رثة إلى جانب أن بعضهم، يتهم دائما بأنه يعيش على السرقة.. "
الفتاة  تفكر في ماوصل إليه أمرها، بعد أن تنصل والدها من مسؤليته وخرج بلا عودة  هاربا من من فضيحة كبري .. فحفيده الأول  ليس أوربيا بعيون زرقاء وليس إيطاليا  وليس فيورنتينيا إنما من جماعات الغجر .
هدأ  الأمر إلى فترة  طويلة  حتي نسي، إلى أن تعالى الهمس من جديد بأن المولود هو طفل صغير يحمل عيون والده.  مرّ الزمان  لا أعرف كم من  خريف مرَّ وكم من شتاء وكم  مرة جفت أشجار الياسمين  ثم أزهرت من جديد .
أفقت من شرودي على صوت الطفل الواقف على باب الحديقة يقول لوالدته  بنظرات خائفة  تنظر إلى  الرجل الغريب الذي يعبث في صناديق القمامة  أنا خائف  من هذا الرجل الغريب:
-    أريد ان اعود الي الداخل؟
اتجهت نظراتهم إلى الشاب بينما الجدة تسحب الطفل من يده إلى الداخل قائلة :
-    هيا ندخل إنها تمطر .....  وألقت الكرة من يدها بعيدا فانطلق الطفل يتراقص ويقفز بين يدي جدته ووالدته اللاتي غيرن اتجاههن فجأة مسرعين إلى داخل  أسوار الياسمين  .
 في الصباح عيون  سوداء ملتحفة بالصمت تلهث   وراءهم علي أجنحة  الياسمين وروح هائمة  تحلق بعيدا عن  جسد غريب وُجِدَ   صباحا  مغطى  بأجنحة الياسمين التي جمعتها الرياح لتغطي قصة غريب  ملقى   بجوار  صناديق النفايات.

 

تعليق عبر الفيس بوك