علي بن مسعود المعشني
من المعروف أنَّ التدخل في الشؤون الداخلية للدول يعتبر أمرًا مرفوضًا في القانون الدولي وتجاوزًا صارخًا لسيادة الدول وحقها في مُمارسة تلك السيادة وفق قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية السائدة في العالم.
كما إن للتدخل تصنيفات وحدود يمكن أن يرقى بعضها إلى مستوى تهديد الأمن القومي وإعلان الحرب، خاصة تلك التي تهدد المكونات الطبيعية للشعوب وتستهدف حالات الاستقرار وثوابت الدول في سياساتها الداخلية من معتقدات وتآخ ومسلمات لا تقبل المساس أو المساومة أو حتى الحديث عنها.
الحديث اليوم لدى بعض العرب لا يكل ولا يمل عن ترديد عبارات الشجب والاستنكار لما يسمونه بالتدخل الإيراني في الشؤون العربية وضرورة مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة، دون تفنيد لهذا التدخل أو الحديث عن ماهية هذا المشروع الإيراني المزعوم وتفاصيله مُستغلين حالة التسطيح الفكري العميق الذي تمر به الأمة لتمرير الجهل والبلادة السياسية توظيفًا لحالة الذاكرة المثقوبة لأبناء الأمة والتي لم تعد تستوعب سرد حدثين متلاحقين خلال أسبوع واحد بفعل الإلحاح الإعلامي الحاد من قبل تيار التطبيع لحصار العقل العربي المعاصر وتمكين الباطل بداخله ليرتله لاحقًا كالصلاة.
فأصبح العرب اليمانيون فرساً مجوساً وأصبحت سوريا أرضاً محتلة من الفرس ولبنان مشروع احتلال فارسي بفعل وجود حزب الله والعراق امتداداً لبلاد الفرس بفعل وجود الشيعة العرب وفصائل مقاومة الدواعش والمشروع الصهيوني وعلى رأسها الحشد الشعبي (ضمير العراق). وتستمر الآلة الشيطانية في غرس المزيد من سموم الأفكار في عقول السُذج ليواروا سوء أعمالهم وتطبيعهم ويمرروا صفقة قرنهم بفعل تلك المخدرات والسموم العقلية الخطيرة.
في حقيقة الأمر أنَّ من يتهمون إيران بالتدخل في الشؤون العربية هم من يتدخلون بفجاجة في الشؤون الإيرانية وبشكل سافر ويومي، وللحقيقة أقول بأن هؤلاء يستغلون كثيرًا صبر إيران العظيم لتمرير غيهم فهم يدركون في حالات وعيهم أنّ أوراق إيران وأدواتها لسحقهم لاتُحصى لوكانت إيران دولة هوائية أو ثأرية أوغانية يغرها المديح والثناء وتبني سياساتها على ردود الأفعال. ولكن إيران دولة عميقة وراسخة تُراهن على الزمن وتتحين الفرص المُناسبة للرد على خصومها والثأر لنفسها حين تدور الدوائر وتصبح مواقفها طوق نجاة لأغرار السياسة ورواد صالات القمار السياسي. وكما حدث في حرب تحرير الكويت حين تهافت الجميع على طهران بالمال والتنازلات لكسب وضمان حياديتها من الحرب فقط لاغير. ثم توالت الأحداث حين اكتشف الغرب النفوذ الإيراني في أفغانستان وأهمية الموقف الإيراني من احتلال العراق وصولًا إلى الربيع وفصوله المشؤومة والحرب على اليمن والمشروع الحلم المُتبدد والمُسمى بصفقة القرن.
إيران تعلم من أجج حرب الثماني سنوات العجاف ضدها وبدَّد مواردها وقتل وأعاق ويتَّم ورمَّل الملايين من أبناء شعبها لكسر الثورة ولخلط الأوراق فيها، وتعلم بمن وقف خلف تفجير مبنى الحكومة بطهران عام 1982م والذي أزهق أرواح قيادات كثيرة وكبيرة في الحكومة والثورة، وإيران تعلم حقيقة من يقف خلف تأجيج الفتنة المذهبية والحشد الطائفي ضدها منذ الحرب العراقية الإيرانية ولغاية اليوم بل وتعلم من يقف خلف القنوات الشيعية الفضائية المُنحرفة ويمولها لتدوم الخصومات بين المذاهب وتعلم كذلك لماذا يتجاهل هؤلاء فتاوى كبار مراجع الشيعة في تجاوز الخصومات والاختلافات وتعزيز التلاحم بين أطياف الأمة كون تلك الدعوات لاتخدم مشروعهم التفتيتي الصهيوني. كما تعلم إيران من يقف خلف الحركات السنية المتطرفة بالمال والتنظيم والآلة الإعلامية الضخمة بداخل إيران ويروج للعرقية لتمزيق اللحمة الوطنية بمزاعم تاريخية تجاوزها الزمن.
جميع تلك الأعمال ومافي حكمها تعتبر وفق القانون الدولي وقواعد السياسة والأعراف الدولية والقواعد الأخلاقية مدانة ومرفوضة جملة وتفصيلًا وتجيز لأي دولة الدفاع عن ثوابتها والحفاظ على أمنها القومي ومصالحها بكل السُبل الناعمة والخشنة، ولكن إيران تدرك أنّ الإنهماك في تلك التفاصيل والالتفات نحوها وفي هذا الظرف الدقيق بالتحديد هو انحراف عن الأهداف والقيم الكبرى وأن الصبر العظيم كفيل بإنتاج النصر العظيم لامحالة وكشف جميع تلك العورات المتسترة بالدنيا والدين فالمتغطي بأمريكا عريان.
فإيران غير معنية بإفهام أغرار السياسة الفرق بين التحالف والوصاية والتبعية فيكفي لخصومها تعيين مستشارين بدرجة سنة أولى علوم سياسية ليفكوا لهم اللبس والاشتباك الفكري بين تلك المصطلحات ومدلولاتها، وإيران غير معنية اليوم بالثأر والقصاص ممن أشعلوا حرب السنين العجاف وراهنوا عليها فقد أهداهم النصر العظيم نصرًا إستراتيجيًا عظيمًا جعلهم في مُقدمة الركب في المنطقة نفوذًا وحيوية وإيران ليست بحاجة لإفهام أغرار السياسة متطلبات السياسة وأبجدياتها في المناورة بجغرافيات بعيدة وبأوراق عديدة للحفاظ على الجغرافيا والمكتسبات الحقيقية في النهاية وكيفية إرهاق العدو عبر إعاشته الدائمة في مساحة الجريمة والعقاب. يكفي أنَّ إيران اليوم تعلم لماذا تُحارب ومن تُحارب وتعلم في المقابل أنّ أورقها السياسية الإقليمية لاتُحصى وأن اللعب بورقة واحدة منها كفيل بإخراجها من توصيف الشيطان وفق تصنيف بورد السيد الأمريكي إلى الملاك الذي يجب كسبه والحفاظ عليه والتضحية بكل من تسببوا له بالأذى طيلة عمر الثورة.
كما تعلم إيران أن من يتحدثون عن الخطر والمشروع الإيراني هم مجرد كومبارس سياسي وظيفي لا أكثر، وإلا كان حري بهم القيام بالدور الإيراني لنصرة قضايا الأمة وسحب البساط عنها وتكريس جل أسلحتهم المادية والمعنوية وآلتهم الإعلامية لمعركة التحرر والنهوض العربي بدلًا من صفقة القرن وأخواتها.
قبل اللقاء: ما أجبر أمريكا ترامب على الجلوس مع كوريا الشمالية هو الموقف الصلب المبدئي لدول الجوار الكوري (كوريا الجنوبية والصين واليابان) من قضية الخلاف مع بيونج يانج ورفضها القاطع لأيّ حل عسكري لأضراره البالغة على كوريا الشمالية أولًا وعليها والأمن والسلام الإقليمي والدولي ثانيًا، بينما ترحب وتشجع دول جوار إيران بأي موقف عسكري أمريكي تجاه إيران وكأن إيران في كوكب آخر وكأن الحرب ستكون حرب نجوم ولن ينوب دول المنطقة أي ضرر جراء قيامها ولن تكون هناك أضرار أوتداعيات إقليمية أو دولية لها إن اندلعت!!
وبالشكر تدوم النعم