التضحية بالجودة مقابل الربح: البيانات المالية لبعض مؤسسات التعليم

د. سيف المعمري

لدينا سوق كبيرة للتعليم العالي، الأمر مغرٍ جدا للمستثمرين لتنويع استثماراتهم وإيجاد نافذة أخرى للربح، ومن يكره اليوم أن ينشئ كلية أو جامعة خاصة في ظل هذا السوق الكبير الذي يضم (28) مؤسسة تعليمية خاصة بما فيها سبع جامعات طبقا للإحصاءات الواردة في دليل البرامج الأكاديمية بمؤسسات التعليم العالي الخاصة (2017-2018م)، والتي يتنافس أصحابها ومؤسسوها على الحصول على نصيبهم من الطلبة سواء من البعثات الحكومية، أو من الراغبين في مطاردة دراساتهم العليا بأي شكل كان، خاصة وأنّ الوزارة تقر في مقدمة تقاريرها أنّ موقفها من هذا القطاع هو ثابت وواضح، فهي تعمل على "تشجيعه وتقديم جميع التسهيلات والدعم المادي والمعنوي له ليعمل على تقديم أفضل المستويات التعليمية"، ولها مبررها في ذلك والذي أكدته في الدليل السابق الذكر بأن هذا القطاع وهو الذي "يمكن أن يفضي إلى تنمية شاملة فبدون منظومة تعليم راقية ومتطورة وذات مرونة وكفاءة عالية مستندة إلى العلوم والمعارف المختلفة لن تكون قادرة على تلبية حاجات المجتمع بصورة فاعلة ومؤثرة"، وهذا هدف استراتيجي كبير يبرر بالفعل تقديم كل الدعم الذي نعرفه لهذه المؤسسات والتي تحصل على كل ما تحتاجه لكي تقف على أرضية صلبة من الدعم المادي الأولي، من تخصيص الأراضي الكيرة لها لإقامة مبانٍ حديثة، إلى تقديم البعثات المستمرة، إلى السماح لها بفتح برامج دراسات عليا واستقبال أعداد أكبر من قدرتها، إلى السماح لها بالاستثمار وفتح شركات لتعزيز قدرتها المالية، إلى الاستعانة بأساتذة بدون مؤهلات أكاديمية عليا.

لكنّ السؤال هل هذا الاستثمار حقق العائد المتوقع منه في ساحة هي تعد الأخطر من ساحات التنمية؟ هل قاد بالفعل إلى وجود "منظومة تعليم راقية ومتطورة وذات مرونة وكفاءة عالية" وهو الهدف والمبرر الذي وضعته وزارة التعليم العالي لتحريك هذا القطاع وفتح هذه السوق الكبيرة للاستثمار على أرض عمان التي يزيد فيها أعداد الشباب في سن التعليم العالي؟ لابد من طرح هذه الأسئلة العميقة لفتح ملف التعليم العالي في هذه الأيام والبلد تناقش استراتيجية المستقبل "عمان 2040"، وأحسب أنّ الجميع لديه قناعات راسخة اليوم أنّ التعليم العالي يمر بأزمة هي "أزمة تحقيق الجودة" هذه الأزمة تتعقد سنة بعد أخرى بسبب وجود هذا العدد الكبير من المستثمرين من الداخل والخارج، ولن نسمع يوما عن مستثمر توقف عن الاستثمار في قطاع التعليم بينما نجد آخرين منهم يتوقفون في قطاع الصناعة والتجارة والخدمات، ألا يثير هذا تساؤلات حول شروط الجودة والعمل؟

لدينا حكمان حول واقع "الكفاءة العالية" للتعليم العالي بصفة عامة، والقطاع العالي الخاص بصفة خاصة، الحكم الأول هو لوزارة التعليم العالي والذي أكدته بشكل واضح وصريح في الوثيقة المذكورة في الأعلى حيث جاء في مقدمتها "اثبت هذا القطاع قدرته على تقديم مخرجات ذات جودة عالية وتحقيق المواءمة بين هذه المخرجات من وجهة واحتياجات سوق العمل العماني من جهة أخرى"، وبالتالي فالوزارة ليس لديها أدنى شك في أن المسيرة لا تتطلب أي تدخل، ولا أي تفكير، ولا أي تشديد أو رقابة، أما الحكم الثاني فهو للهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي والتي كشفت خلال التقارير التي صدرت حتى الآن عن بعض المؤسسات التعليمية التي قيمتها في ضوء المعايير المؤسسية أن بعض المؤسسات وضعت تحت الملاحظة، وبعضها حصلت على اعتماد مشروط وهو ما تم شرحه وتحليله في المقال السابق "مؤسسات في التعليم العالي "تحت الملاحظة: هل سيلتحق الطلبة بها؟" والمنشور في (10 يونيو 2018)، وبالتالي نحن أمام تضارب في الرؤية حول مسألة "الجودة والكفاءة العالية"، ولكن تقييم الهيئة العمانية هو الذي يمكن أن نأخذه بمأخذ الجد لأنه مبني على معايير منشورة على موقعها، وفي ضوء التقييم أخذت قرارات بوضع المؤسسات غير القادرة على تحقيق المعايير تحت "الملاحظة"، فوجد لدينا مؤسسات تضع بعض "طلبتها تحت الملاحظة الأكاديمية"، وهي نفسها واقعة "تحت الملاحظة"، وقد يخرج الطالب من الملاحظة قبل خروج مؤسسته منها، وبالتالي هل المسألة مرتبطة بالموارد المالية والإمكانات؛ وهو المبرر الذي يقدمه بالبعض تبريرا لهذا الواقع؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، ولكن هناك بعض المؤشرات التي يمكن أن توظف كمفاتيح أولية لتحليل ظاهرة "العزوف عن تحقيق الجودة" في بعض مؤسسات التعليم العالي، وتتمثل هذه المفاتيح في كون بعض هذه المؤسسات مسجلة كشركات في سوق مسقط للأوراق المالية، وبالتالي فإن السوق يتطلب دائما بيانات حول الوضع المالي لها بما في ذلك الأرباح التي تحققها خلال فترات زمنية معنية، وبالتالي فإنّ المتتبع لبعض هذه المؤسسات المدرجة تحت أسماء شركات في سوق الأوراق المالية يجد أنها تحقق أرباحا وصلت لدى بعضها إلى (40%)، وبسؤال أحد الاقتصاديين ممن يعملون في قطاع الصناعة منذ فترة طويلة أكد أن هامش الربح المنطقي للمؤسسات الصناعية سنويا هو بين (15-20%)، فهل يعقل أن تحقق مؤسسات تعليمية ربحا سنويا يصل إلى ضعفي ما تحققه المؤسسات العاملة في القطاع الصناعي؟ هل يصمد تبرير ضعف الجودة بقلة الموارد المالية كما يدعي البعض حين يفتح النقاش في هذا الموضوع؟ لابد أن تحلل هذه المعطيات بدقة، من أجل تحديد العوامل الرئيسية لمسألة ضعف الجودة.

إن هذه المعطيات مع ما يصدر حاليا من تقارير للهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي تؤكد أن الطريق إلى تحقيق "الكفاءة العالية" التي تنادي بها وزارة التعليم العالي المشرفة على هذه "الاستثمار"، وهذه "الخوصصة غير المنضبطة" لا يزال طويلا جدا، ويتطلب مزيدا من الشفافية في الطرح والنقاش خاصة في ظل تزايد عدد الطلبة الموجهين إلى هذه المؤسسات، وفي ظل التحولات في متطلبات سوق العمل ومهاراته، وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي لا بد أن تشل يد الدول عن تقديم الدعم لمواطنيها، بل بالعكس بدأت تتجه إلى البحث عن الدعم منهم من خلال فرض ضرائب جيدة أو رفع أسعار الخدمات التي تقدمها لهم، ولذا مثل هذا الوضع ينذر بتداعيات خطيرة على الدولة والإنسان، دائما يقال إنّ "المستثمر لا هدف له إلا الربح"، ونحن كدولة يجب أن نلزمه بالهدف الذي من أجله نقدم له الدعم السخي الذي تؤكده وزارة التعليم العالي في كل وثائقها، المسألة ليست بثا للقلق فنحن نعيش القلق بالفعل من واقع التعليم العالي، والمسؤولون في مختلف القطاعات والمؤسسات البرلمانية في أكثر من جلسة وبيان ونقاش عبروا عن كل هذا القلق، ولكن الإشكالية رغم عمق هذا القلق إلا أنّ البعض يصر على أن يقلل منه إلى حد الاستهانة به.

الأكثر قراءة