على مائدة الليل

 

علا ص. ن حسامو - سوريا

أورفيوس يشاطرني مائدة الليل، مائدة الليل الطويلة كسجّادة صلاةٍ كلّما اقتربت من قياس آخر شبرٍ منها استطالت أكثر، مائدة الليل الملعونة الّتي بلا نهاية..
على رأس المائدة يجلس، كرسيُّه من الجيلاتين، وأنا كحبّة كرزٍ قانيةٍ شديدةِ النّضج، كلّما حاولتُ الاستقرار على حافّة الكرسيّ تدحرجتُ نحو الأسفل، وكلّما فعلت، التقطَني بإصبعَيه النّحيلتَين كملقطِ غسيلٍ جائع، وبهدوء ووداعةٍ أعادني إلى مكاني..
أنا وأورفيوس صديقان قديمان، لم نكن نعرف بعضنا أبداً، لكنّ وتراً من أوتار قيثارته العتيقة يربطنا منذ الأزل ويشدّ جِلد المسافةِ بيننا؛ سرّتي المشدودةُ كسمكةٍ صغيرة تشهد على ذلك، سمكتي الصّغيرة الّتي كلّما حاولت القفز إلى بحيرةٍ ما علِقَت قبل سطح الماء بقطَرة، وسمِعت ضحِكة عجوزٍ يحبّ الموسيقى..
بيني وأورفيوس ثلاثٌ وثلاثون عاماً، ومع ذلك فلقلبي تجاعيد وجهه الجميل، ولرئتيّ رائحةُ يديه، ولأصابعي تقرُّحات ظهرِه..
أورفيوس يشاطرني مائدة الليل، وأشاطره الجوع، الجوع الّذي مهما استطالت المائدة، ومهما كثرت الأطباق، لا يتوقّف عن النّخرِ في روحَينا..
أورفيوس يُلصق كفّيه بعضهما ببعض، ويقعّرهما كصحن، يسكب بعضَ الحساء فيه، ويقدّمه لي، وأنا أمطُّ رقَبتي، أمدُّ لساني، وكجروٍ ولِهٍ ألحسُ  ما في الصّحن..
كثيراً ما يصيرُ صحنٌ ما قارباً، سريراً، بتلةَ توليبٍ، أو عيناً مفتوحةً على إلهٍ ما.. وكفَّ نَديمي في كلّ لحظةٍ تصيرانِ كلَّ هذا..
حين أسهرُ وأورفيوس، لا أشعرُ بالوحدة أبداً، وإن كِدت أفعل، قرّبَ أصابعه الكثيرة منّي وابتسم، فتساقطَت إصبعاً إصبعاً على القيثارة، وامتلأ المكان بالضّحك؛ لأصابع أورفيوس القدرةَ على التّحول إلى قبيلةٍ من الأطفال تتقافز وتمرح على الأوتار، وتحملني معها لنلعب لعبة (الغمّيضة) ولنلفّ سجّادة الصّلاةِ الطّويلةِ جدّاً كفزّاعةٍ خرساء، نتسلّقها تِباعاً وننادي للغربان والعصافير أن يكملوا معنا السّهرة.
أورفيوس يشاطرني مائدة الليل، مائدة الليل الطّويلةِ جدّاً كوِحدتي.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك