حاتم الطائي
لا يملكُ المُتأمِّل في الوعدِ الإلهي لنبينا الكريم في سورة الضحى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، سوى أن يستشعر ما ينطوي عليه من بُشريات ودلالاتٍ، تشرحُ الصدرَ، وتنبسطُ لها الأسارير؛ لما فِيه من إيجابية تبثُّ الطمأنينة بأنَّ عَطاء الخالِق مُتصل، لا ينضبُ وغير مَمْنون. صحيحٌ أنَّ الخطابَ في الآية موجَّهٌ للنبي الكريم، إلا أنني أستطيع القول بأنَّ مثل هذه العطاءات الإلهية، ليست قَصْرًا على نبيٍّ أو خاصة بشخصٍ بعَيْنه، بل هي رسالةُ السماء للإنسانية جمعاء، يُمكن لأيِّ إنسان أن يفسِّرها على أنها توجيهٌ إلهي له بالرضا بما أعطاه، والشكر على ما أنعم به عليه.
لقد قَرَنت الآية الكريمة العطاءَ الرباني بالرِّضا، وليس فقط بالسعادة، وهذا ما يُفرِّدها معنًى وبلاغةً؛ إذ الرِّضا هو كلمة السر التي يتوافق فيها ما نُريد مع هو موجود لدينا فعلاً؛ فتتحقَّق الكِفاية والامتلاء.. ومِنَ هذا العطاء الرَّباني المُطلق، تنبثقُ عَطَاءات الإنسان في الحياة من حوله، بشتَّى أشكالها وتفرُّعاتها؛ حتى نكادُ نصل إلى خُلاصة جوهرية بأنَّ "محور الحياة هو العَطاء"؛ باعتباره الفعلَ الأقوى في حياة الأفراد والمجتمعات، ولتأثيره العميق؛ فبه تتحقَّق معاني التكافل، وإحياء رُوح التضامن، ويَقْوى النسيج المجتمعي، وتزول الفوارق؛ وتُرْسى قواعد الوئام والمحبَّة في المجتمع، وتسود رُوح الرِّضا والقناعة، مصداقًا للمعنى البعيد الذي تشتمل عليه الآية الكريمة.
ومما تُنبِئنا به أيضًا "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، أن الرِّضا دليلُ ثقة الإنسان بربِّه، وغيابه مُؤشر خَطير، يجعل الإنسان يدور في حلقات مُفرَغة من التذمُّر، والوقوع في دوَّامة الشكوى، دون فِعل شيء لتغيير الواقع، أو السعي لتحسينه؛ فتجد من يندب حظه ويُحمِّل الآخرين مسؤولية إخفاقاته، وآخر يقضي عمره بانتظار حلٍّ لمشكلته يأتيه من السماء دون أن يُحرك ساكناً.. حتى وجدنا أجيالاً تُلازمُها الشكوى، كنتاجٍ لمُسلَّمةٍ اختصارُها أنَّ الرضا إذا تبخَّر ترك ضَعفًا في الهمم، وتعاسةً في القلب، وركونًا إلى كل ما هو سلبي.
... إنَّ قصص الأمل والإحباط التي نَقرأها بين عُيون أبنائنا من الشباب اليوم، ليست مجرّد قصص تتصل بالحالة النفسية ونتائجها الإيجابية والسلبية، بل تتصلُ بإيمانٍ داخليٍّ نحتاجُ أن نغرسه عميقًا لتنشئة أجيال راضية، مُطمئنة، قادرة على الوفاء بمسؤولية ما يُوكَل إليهم.. أن يُدركوا معنى أن تعيش قيمة الرضا في عقلِ الإنسان وقلبه، لا أن يكون بائسًا جشعًا. إننا نحتاج جيلاً واثقًا بنفسه، قدراته، طموحاته، جيلاً يَعْلم بأنَّ ما تحقق لوطنه، والأجيال السابقة عليه، وكل أفراد مجتمعه، يحتاج مضاعفة عمل، كوجهٍ من أوجه الشكرِ البيِّن، على نعمة العَطَاء الذي يرفل فيه الجميع اليوم.
ويضادُّ مفهوم شُكر العطاء هنا، ثقافة النُّكران والجُحود؛ إذ هناك البعض ممن كلما أعطيتهم يطلبون المزيد؛ جُبِلتْ نفوسهم على عدم الرضا، وهُم بذلك أسرى للطمع والجشع... وغيرهما من صفاتٍ تُسيء لصاحبها، خلافًا للقيمِ التي فُطِر عليها الإنسان أن إذا وَجَد أعْطَى، وإن أُعْطِي شكرَ وقنع؛ إنسان مُتسقٌ في سلوكه مع قوله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"؛ ليكفل لنفسه الوقاية ويحصِّنها من القيم الهدَّامة؛ فالطمع والجشع مدمِّران للإنسان ابتداءً، والوطن والحضارة تباعًا، والشواهد أكثر من أن تحصى عن عاقبة عدم الرضا والكفر بالنِّعم وسوء استخدامها، يقول تعالى: "وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ". فالإنسان مُستخلف على نعم الله، كما عليه شكرها، عليه أيضًا استخدامها في الخير والبناء لا الشر والدمار والفتن.
... إنَّ ما اشتملت عليه "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، من تبيانٍ وبلاغةٍ وتكثيفٍ في المعاني -القريبة منها والبعيدة- ليحملُ على القول بأنَّها بمثابة وَصْفة علاجٍ ربَّانية لما قد ينتاب الإنسان من قلق أو خوف من أي مجهول؛ فالله إنْ أعطَى أدهش الجميع بعطاياه، حتى تطمئن النفس وترضى.. فأعِيدوا من اليوم ترتيب أمنياتكم ورؤيتكم للحياة على هذه القناعة، فليست السعادة أن يمتلك الإنسان كُلَّ شَيء، وإنما أن يقنع بما أُوْتِي؛ فمهما ضاقتْ الدنيا، تبقَى نوافذ الأمل بعطاء الله مفتوحة.. عطاء يصل حدَّ الارتواء.