المصالحة الوطنية بين المزاد السياسي والواجب الوطني

عبيدلي العبيدلي

منذ اندلاع نيران الحِراك السياسي العربي في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، امتلأت سماء الفضاء السياسي العربي بالعديد من المفردات السياسية التي أفرزها ذلك الحراك، والتداعيات التي رافقته. ومن بين تلك المقاطع كانت الدعوات لما أطلق عليه "المصالحة الوطنية"، التي لا تزال حتى يومنا هذا تطل بوجهها علينا، عندما يبدأ الحديث عن وضع حد للاقتتال العربي. ولا بد من الاعتراف هنا، كما يرد في الكثير من الكتابات التي توقفت لمعالجة القضايا التي ولدتها تلك الدعوات، بأن المصالحة الوطنية هي "مفهومٌ حديثٌ بدأ استخدامه وتطبيقه مع نهاية الربع الأخير من القرن العشرين، لا سيما في بعض دول أمريكا الجنوبية، وأقطار المنظومة الاشتراكية سابقاً، وبعض البلدان الإفريقية، والتي بدأتْ تشهد في تلك الفترة انتقالاً بأسلوب الحكم من المجتمع المغلق إلى المجتمع المدني الديمقراطي؛ إذ قدّر صموئيل هانتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات هذا الانتقال بأنه شمل أكثر من 40 دولة، وترافق ذلك مع نهاية الاستعمار الذي ساد تلك الدول، وانطلاق عجلة الإصلاح وترسيخ مفهوم المواطنة، وتفعيل دور المؤسسات القضائية وسيادة القانون، والسعي للنهوض بتلك الدول في ظل التعددية الحزبية ودثر آثار التصلب؛ فالمصالحة درجةٌ ساميةٌ في نضج الدولة وتشير إلى الوعي السائد بين أفرادها، وتدل على اكتمال رشد الدولة ومؤسساتها والتطور الثقافي والسياسي واستقامة ممارساتها.

وبما أن هذا التعبير حديث النشأة؛ فمن الطبيعي أن تتباين التعريفات التي تسعى لإيجاد صيغة مشتركة يتفق عليها بين من يبحث عن مصالحة وطنية، أو يحاول أن يؤسس فوق مرتكزاتها صرح مشروعه للمصالحة الوطنية.

ولعل في اجتهادات الكاتب العراقي سامي الزبيدي ملامح مشتركة كثيرة لتعريف المصالحة الوطنية يقول فيه: إن المصالحة الوطنية كي تكون ناجحة ومثمرة ينبغي ان تتحلى بمرتكزات "خطة شاملة وآليات واضحة ومقبولة، تضمن تحقيق مطالب وحقوق جميع مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية والفئوية والحزبية، ووضع حل شامل وعقلاني وسلمي متوافق عليه يُنهي حالة الخلاف والخصام والعداوة وعدم الثقة بين هذه المكونات، يُنفذ عن طريق الحوار والتفاهم دون استخدام العنف والقوة والثأر والانتقام والإقصاء والتهميش وإلغاء الآخر باستغلال النفوذ السلطة الممنوحة أو بتسييس القوانين والقضاء. وللمصالحة أنواع متعددة منها المصالحة المجتمعية أو الاجتماعية.

وعليه، فأول ما تفترضه المصالحة الوطنية -كما يورد الكاتب العربي برهان غليون- هو "التفكير بتسويات تفاوضية لمواجهة التحديات والمشاكل الوطنية لا يمكن تحقيقها دون اعتراف الأطراف المختلفة بوجود بعضها البعض وبشرعية المطالب التي يرفعها.

وكأي مشروع تفاوضي، يتطلب نجاح المطالبة بالمصلحة الوطنية توافر مجموعة من العوامل الفاعلة والمساعِدَة -بكسر العين- نُجمل الأبرز بينها في النقاط التالية:

- عجز أي من الأطراف الضالعة في الصراع عن الوصول إلى نقطة حاسمة تفرز بشكل واضح وجلي معسكرين مستقلين، ينعم الأول منهما بالنصر، والآخر يتجرع كؤوس الهزيمة، ومن ثم فليس هناك خط فاصل واضح بين طرف منتصر، وآخر منهزم.

- وصول الفضاء السياسي في البلد المعني إلى طريق مسدود، واقتناع الأطراف كافة، ذات العلاقة أيضا، بغض النظر عن الأسباب والمبررات، بان آليات المصالحة الوطنية، وحدها دون غيرها هي الكفيلة بإخراج البلاد من مأزقها، وأن أي وسيلة أخرى خارج إطار مشروع المصالحة الوطنية لن تكون ذات جدوى.

- توافر برنامج قابل للتنفيذ، ويحظى بمباركة وموافقة الأطراف ذات العلاقة، قادر على إقناع تلك الأطراف بتيني ذلك المشروع، والدفاع عنه، وحمايته من أي إخلال بأي من مكوناته، والنتائج المترتبة على تبنيه، وتنفيذ بنوده المختلفة.

ومقابل عناصر الإنجاح هذه، هُناك عوامل الفشل التي من شأنها وَضْع العصا في عجلة؛ أي مشروع للمصالحة الوطنية لضمان تعثره، والحيلولة دون قُدرته على تحقيق أهدافه، والأهم بينها وضع حد لمعارك الاقتتال والعنف، وانتقال الأطراف كافة من ساحات المواجهات والصدام إلى غرف الحوار والجدل الهادف المسؤول، ويُمكن رصد عوامل فشل مشروعات المصالحة الوطنية في النقاط التالية:

* شعور طرف من الأطراف ذات العلاقة بأن في وسعه لوحده، أو من خلال تحالفاته المحلية والدولية، حسم الصراع لصالحه، بعد إلحاق الهزيمة بالآخرين، وإقصائهم من معادلة العمل السياسي. مثل هذه القناعة، مهما كانت هشاشتها على أرض الواقع، تمارس دور العصا عندما توضع في عجلة دوران أي مشروع للمصالحة الوطنية.

* الاستعانة بطرف خارجي، الذي تبقى أهدافه من التدخل، مهما كانت مصالح هذا الطرف متقاربة مع مصلح حليفه المحلي بشكل خاص، أو بلد الصراع بشكل عام، غير متطابقة مع أهداف ومصالح أي من هذين الأخيرين. وبالتالي، فمن غير المستبعد، وفي أية مرحلة من مراحل تقدم مشروعات المصالحة الوطنية، أن نجد هذا الحليف الخارجي، يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل عرقلة مسيرة المصالحة الوطنية إن لم يكن إجهاضها، بعد إرهاق أطرافها.

* التعارض الزمني؛ فالتوقيت عاملٌ في غاية الأهمية لإنجاح أي مشروع من مشاريع المصالحة الوطنية، فما هو صالح اليوم، ربما يكون غير ملائم لظروف الغد، نظرا لتغير البيئة، وزوال العناصر الإيجابية العاملة لصالح المصالحة الوطنية.

وبناء على كل ذلك، تتطلَّب المصالحة -كي تكُون مثمرة، وتؤتي أكلها- توافر الظروف الذاتية والموضوعية المناسبة لها، وفي مقدمة ذلك وجود عراب، يسبق طرحه مشروع المصالحة بين أطراف متنازعة، أن يكون قد قام بهذا التمرين بشكل ذاتي، ونجح في التصالح مع ذاته، ومنسجما معها، مع ما يتطلب ذلك من نبذ للتخندق والانعزال، أو الوقوع فريسة لغرور ذاتي مصدره نصر واه هنا، أو زهو بسبب مكسب مؤقت هناك.

ومن يعجز عن تحقيق المصالحة الذاتية، لن يكون قادرا على الوفاء بمتطلبات، والالتزام، بقيم المصالحة الوطنية، فدائرة هذه الأخيرة أوسع، ومتطلباتها أكثر مشقة. وأي مدخل خلاف ذلك، يتحول موضوعيا إلى ما يشبه المزاد السياسي، بدلا من تأديته للواجب الوطني.