الانتصار على الزمان والاحتفاظ بنضارة الوجود


غادة سعيد – أكاديمية وناقدة سورية - بورتو - البرتغال


الصمت كان بيننا. لم يكن الصمت فشلا للكلام، بل كان ضجيجا من حوار غير مسموع. ليس لأننا لم نجد ما نقوله في تلك اللحظة، بل لأن الصمت، كما خبرت ذلك مع أسمري، يشبه فراغا معبرا في ديكور صالة أنيقة..
ومع ذلك، كانت أغنية الفرنسي: شارل آزنافور (charle Aznavour) تحفر في طمي الشعور، وتنفتح في رماد السنوات الخامد لتشعل جمرة شباب توشك على الانطفاء.
كنت مثل مسافرة تائهة في الصحراء عثرت على ما يشير إلى واحة أو بئر أو أطياف بشر. كنت أعرف أن سوريا لم تعد ذلك الفضاء البعثي القديم الذي لا يتكلم فيه غير صوت الهمس والسوط، بل سوريا أخرى في طريق التحوّل.
لكني كنت أعرف كذلك أن أفظع المراحل التاريخية هي مراحل الانتقال من نهاية حقبة وبداية حقبة. يصبح التاريخ مثل ذئب جريح، وتزداد شراسته وعدوانيته وإحساسه الدائم بالجوع وحصار الحيوانات المفترسة.
إن المرحلة لا تنفق، وهي مثل أي كلب دهسته سيارة، يملأ العالم زعيقا وأنينا وفظاعات، ولذلك لا تستسلم المرحلة إلا وقد جرفت معها ضحايا كثيرين في الطريق.
هل أنا ضحية..؟ هل أسمري ضحية..؟
ربما امتلكت الجرأة والشجاعة فكتبت "تاريخي" و"صدمت"المتلقي التقليدي، وتزعزع أفق عقائد "المثقف" الموبوء ورؤيته التقديسية لولاء "المرأة" ورفضها الخنوع لسلطة التدجين (المبتكرة) بتوابل قيم لم يستطع التخلص منها.. بعد..
ولكن ماذا فعل أسمري..؟
لحد الآن، استقال من "عبث" سوريا وتاريخه القديم.. كما يقول:
- لا شيء لي هناك.. ولا أريد إلا العيش في شبه الجزيرة الإيبيرية، والتي تعينني أن أكون شريكا في الإنسانية والفكر المتسامح.. ولم يعد يعنيني ذاك البلد المعروض على شاشات التلفاز في كامل عريه المادي والأخلاقي.. و غلو مثقفيه وأفكارهم المتحجرة..
كنت ممددة في الصالة الفسيحة على الكنبة البيضاء، أنصت له ولصوت (شارل أزنفور):
Hier encors j'avais vingt ans..
Je caressais le temps..
( أمس، كذلك، كان سني عشرين سنة..
كنت أداعب الوقت..)
قال لي:
- اسمعي، حبيبتي.. أحب هذه الأغنية كثيرا لأن لها علاقة بالزمان. يقال إن شارل آزنفور أصيب برعب شديد عندما بلغ الأربعين من عمره، واعتبر أن الزمان يختلس شبابه دون إرادة منه، ولذلك كتب هذه الأغنية.. ولم يترك لي ما سأقوله أنا الهرم العليل الذي تخطى عقده الخامس بما ينيف..
أجبته:
- هي بالفعل أغنية رائعة جدا.. فيها إحساس غريب..
نهضت من الكنبة واقتربت منه. طوقت كتفه بذراعي في حنو غامر، وقال:
- c'est ça chérie.. tu l'as dit..
(نعم حبيبتي.. صدقت)
- j'ai dis quoi mon vieux?
(ماذا قلت يا عجوزي ؟)
ناولني كأس كونياك وخفض بصره ثم ابتسم:
- هذا الإحساس الغريب في الأغنية هو إصرار لا شعوري من المغني على الانتصار على الزمان والاحتفاظ بنضارة الوجود.. ترى كم من العمر أمامنا لنلتقي بسوريا التي عشقناها؟
أعجبني تعليقه فيه ذكاء ومعرفة. وقلت له:
- ستعود كما كانت حبيبي وسنرجع لها رغم أنف الجميع..
لكني شعرت أن كلامي مازال ناقصا، وسوريا تبتعد عنا كل يوم.. لأتخذ أغنية شارل آزنفور ذريعة لصمت يمتد أمام اوجاعي..
**
غادة سعيد
03/06/2018

 

تعليق عبر الفيس بوك