لـِيليـــــان


رشــا شـمـس – قاصة من مصر


صوفي هيرتس، قطعة السكر التي أحالت مرارة حياته شهدًا، و أضاء وجودها عتمة أيامه ،  رأها مرحة ، متفائلة ، لا تفارق الإبتسامة وجهها الصبوح في مكتب التوظيف الذي كان يزوره بإنتظام بعد سنوات قضاها في غربته الموحشة جاف القلب، شريد الذهن، ممزق الأوتار، كانت الغربة قد صهرته وأكلت لوعة الحرمان فؤاده، إلا أنه لم يرغب في العودة إلى وطنه بعدما أنهى منحته الدراسية، قبِل بعدد لا بأس به من الأعمال المتواضعة إن لم نقل أعمالًا حقيرة لا تتناسب مع أصوله العريقة ولا تتماشى مع ما نسجته له أسرته من أحلام عريضة براقة لمستقبل مشرق مضئ، كثيرًا ما حدث نفسه مُطمئِنا لها أن الفرصة الحقيقية لم تأت بعد ، وكم يجب على المرء أن يتصيد ويكافح لتحقيق مبتغاه ، لم ير في وطنه ما يدعوه للعودة ولا ما يغريه بها رغم وحشة الغربة و برودة لياليها، أحبّ أن يكون ذاته لا ما يريده له والداه، أخبرهما بنيته البقاء في الغرب الذي وبكل تأكيد سيخلق منه رجلًا آخر يختلف كل الإختلاف عن ذاك الشاب الذي ركب الطائرة من سنوات، أراد أن يختار شريكة حياته بملء إرادته و بكامل وعيه، يريدها قوية، مفعمة بالثقة بالنفس، طموحة و جذابة، ذكية وذات إيقاع سريع يواكب العصر ويجاري متغيراته وقفزاته ، لم يكن راغبًا أبدًا في زواج تقليدي يسير وفق العادات والتقاليد ، يُرضي الأهل والأقارب و يُنجب العزوة ويشد الظهر و يرث الموروث، لم يرغب في " هنية" إبنة عمه ولا في " نعيمة" إبنة خاله، ولا في أي إبنة نبتت في أرض القرية التي جاء منها .
 كانت صوفي واحته الظليلة التي ظهرت فجأة في صحراء حياته الجرداء، ارتوى بمائها حين كاد الحرمان أن يُجففه دون أن تسأله شيئًا، كانت صوفي أمنية مستحيلة تردد كثيرًا في تحقيقها فإذا بها تقترب منه أكثر وأكثر، و تمد بينهما جسورًا لا متناهية من التواصل لتبتلع كل فراغ بينهما ، دائمًا متشحة بالأخضر الذي تفضله كثيرًا عن غيره ، يشعر بالزهو لأنه بجانبها و معها و بجوارها، تزوجها ليهنأ معها و بها و يُحيل عتمة أيامه ضياءً و إشراقًا كذلك الذي تلمع به عيناها كلما طالعها، فكانت له تمامًا كما أراد .
سنوات هانئة مرت على زواجهما الآن و والداه يدعوانه بل يرجوانه العودة للوطن و رويدا رويدا بدأ الحنين يدب في أوصاله، و راحت مشاعره نحو أهله واصدقائه تتدفق برفق الى جوفه ، تفهمت صوفي الأمر و لم تنزعج  حين أخبرها بحاجته الملحة لذهابهم جميعًا الى وطنه في زيارة لأيام قصيرة تحقيقًا لرغبة والديه واستجابة للهيب حنين يستعر داخله ، تفهمت  لكنها اعتذرت عن مرافقته في تلك الرحلة لظروف عملها و مرض جدتها العجوز التي تحتاجها بجوارها، فربما كانت تلك أيام " أوجيني" الأخيرة ، فلقد أصبحت شبه مُقعدة بالكاد تتحرك على كرسيها المتحرك ولا تفتأ تنادي على صوفي كلما احتاجت شيئًا، فقد باتت حفيدتها هي مخرجها الوحيد من عجز صامت يتقدم نحوها بسرعة يوم بعد يوم، و كحلٍ للموقف اقترحت عليه صوفي السفر وحيدًا ليهنأ بدفء أسرته هذه المرة مع وعد صادق بمرافقته في المرة القادمة، لا ضير من ذلك ، تولت صوفي عنه مهمة شراء ما يحتاج ، ملأت حقيبته بهدايا ثمينة لأفراد أسرته فردًا فردًا و لم تنس أحدًا وكأنها أرادت أن تعتذرعن تخلفها الإضطراري عن مرافقته، ودعته مبتسمة في المطار وهي تحمل طفلته ليليان التي تعلقت بعنق أمها بفطرية تُذيب القلب إلا انها أطلقت نحوه إبتسامات تُغلف كلمات سحرية خرجت متعثرة من بين شفتيها اللؤلؤتين تطلبانه بالعودة سريعًا، مال عليها يحملها بين ذراعيه و طبع قبلة حانية على وجنتيها مجدِدًا وعده بالعودة في غضون أسابيع لا أكثر ، فالأمر هين ولا حاجة لإطالة فترة الغياب .
لم يستطع أن يقاوم دموعًا انهمرت بغزارة من عيني والدته " الحاجة فاطمة " التي تشبثت به كغريق يتشبث بطوق النجاة، قابلت دموعها دموعه وجعل يرمقها وهو صامت لا تسعفه الكلمات، يمرر يده على رأسها في حنان و يداه ترتجفان، بينما فرحة طاغية استولت على أبيه " الحاج رشيد " حين رأه، قذف نفسه ببن أحضانه وانحنى يقبل يده فالتقطه أبوه وعانقه طويلًا ، أحس خوفًا يزحف داخله و رهبة تنتشر ببن جنباته لا يجد لها تفسيراً .
استقبله أطفال القرية ببهجة لم يرها من قبل، و كأنهم كانوا على موعد معه ، ساروا معه في الطرقات تزفه ضحكاتهم و أهازيجهم التي انطلقوا يرددونها هنا وهناك عن عودة الطير المهاجر، راقت له فرحتهم و استقبالهم ، مد يده في جيبه وأغدق عليهم أموالًا يضعها بعفوية في كفوفهم الصغيرة فتنطلق أبصارهم بينه و بين عطيته في إنكار و إستفهام ، لا يكادوا يصدقون أعينهم من عظمة المبلغ فيُمرر يده على شُعورهم و يبتسم قائلًا : إنها لكم صدقوني.
تركوه الأطفال في نهاية جولته و انشغلوا بجمع بعض كيزان الذرة إلا " سلمى" الطفلة الصغيرة التي ظلت متعلقة بكفه تُصر أن تُريه بيتًا من القش تختبأ به حين تريد ، أرادت أن تخُصه بسرها الثمين فوافق مرحبًا، راحت تعدو في فرح و تشير إليه أن يتبعها مخترقًا حقول الذرة في شوق لتحري الأمر، ظل يراقبها بإهتمام و هي تشرح له الطريق إلى مخبأها و خلايا فؤاده تتمدد و شرايين عقله تتفتح و شرد يفكر في صغيرته ليليان ، فسلمى تشبهها كثيرًا في جمالها وعفويتها و تلك البراءة الممزوجة بشقاوة  ساحرة تأسر فؤادك فتسارع لتلبية طلبها بمجرد أن تتفوه به ، فلقد ملكت عليك قلبك و احتلت بدلالها عقلك، : ليليان الصغيرة ما عساكِ تفعلين الآن ؟
ليليان، يا ترى ماذا تفعل الان؟ و ماذا ستفعل في قادم الأعوام؟ قريبًا ستلتحق بالمدرسة، أي مدرسة تلك ؟ وماذا ستتعلم ؟ و أي لغة ستتحدث ؟ و أي مبادئ ستُغرس في نفسها؟ و بماذا تؤمن؟ و أي عقيدة ستعتنق؟ هي إبنته نعم ، من لحمه و دمه نعم ، لكنه لا يستطيع أن يفرض عليها أمرًا ولا أن يحدد لها طريقًا أو مسلكًا، لا يمكنه أن يضمن ما ستكون عليه و ما ستختاره لنفسها، إبنته نعم ، روحه نعم ، لكنها ولدت في مجتمع يجعلها غريبة عنه مهما كان قريبًا ، ما أعمق الهوة التي تفصل بينهما وما أقسى الخلاف الذي يحول دونهما، ليليان الحبيبة ، كم طاقت نفسه ليهبها اسمًا شرقيًا ، أرادها " ليلى" لكنه خشي أن يصير اسمها مهترئاً أجوفاً، فارغ من المعنى، خالي من المحتوى، ستلويه ألسنتهم ، سيصير " لِيلا "، مسخًا مشوهًا من إسم أراده ، لم يكن يدرك من قبل قوة حروفنا الهجائية ولا عُمق ما نُرصعها به من حركات لتكن كما نريد، شرد يحدث نفسه قائلًا: كم كنتُ مخطئًا أنانيًا حين أردتُ لنفسي حياة خاصة ، جديدة ، مختلفة، بعيدًا عن أصولي، شريدًا عن جذوري دون أن أفكر مليًا فيما سأمنحه لك بُنيتي ، أحببتُ صوفي نعم، لا أنكر لكنها أبت إلا أن تصهرني في مجتمعها وتطهرني من جهل و تزمُت و تخلف ترى موطنه شرقيتي، فهل يمكنني الآن أن أواجهها بما أريده لابنتي ، أريدها فتاة شرقية يذوب في عشقها رجل شرقي، لا أريد لها رجلًا تائه مثلي، رجل ذو مشاعر مترددة ، رجل غريب عن نفسه وعن وطنه ، ليليان لا أريدكِ ضحية أنانيتي ومجوني واستهتاري، فإن كانت صوفي قد نجحت في أن تجعل مني رجلا غربيا فلن أتركها تسقيكِ روافد الغرب مهما كان الثمن !.
***
ثلاث أشهر كاملة لا يتوقف بينهما النقاش الذي احتدم كثيرًا دون أن يستطع أي منهما إقناع الآخر بما يرى، وبما يريد، صار النقاش جدالًا يمتاز بالحدة  وأصبح من العادي أن تتعالى أصواتهما بالصراخ صباح مساء، أخذها باللين حينًا و بالشدة حينًا، و أخذته بالعطف حينًا و بالرفض حينًا دون جدوى، و أصبحت ليليان تنقل بصرها بينهما في حزن يختلط بالغضب كانت لا تفهم ما يدور بينهما، أي شيء يمكنه أن يُحيل جنتها ناراً مضطرمة لا تهدأ ابدًا، كثرت نوبات بكاؤها خاصة ليلًا ، أصبحت تقفز مذعورة من أي صوت مفاجئ قد يطرأ،  ترفض النوم في سريرها و تدفن جسدها الصغير في أحضان أمها ، تقبض أناملها الرقيقة على منامتها بتشبث، لم تعد تركض فرحًا وهي تلقي بجسدها الضئيل في أحضان والدها عند عودته للمنزل ليلًا، وبدا الأمر له وكأنها صارت تتحاشاه !.
ثم حدث أن هدأت العاصفة، أبدت صوفي اقتناعًا برأيه و رضوخًا لإرادته، تحبه في كل الأحوال و ستذهب معه أينما أراد، أكدت حبها له بأن تركت عملها المصرفي رغم قوة مركزها الوظيفي هناك، بل شرعت في تنفيذ قراره بالعودة الى الوطن ، ولما لا إذ وعدها     " شريف" أن يحقق لها كل سُبل الراحة و الحياة الكريمة اللائقة في وطنه ، شكر لها صنيعها و جميل إيثارها وانتصارها لوحدة العقد و ترابُط حباته، انهمك في مواكبة قبولها وأخذ يعمل على إنهاء الأوراق المطلوبة و كافة الإجراءات اللازمة للرحيل كما كلف مكتب عقارات في عاصمة وطنه بتجهيز فيلا جميلة أنيقة على أحدث طراز في أحد المدن الجديدة تُطوقها حديقة خلابة ، فهو يعلم جيدًا كم تعشق صوفي الأشجار و الأزهار و خاصة القرنفل ، أراد أن يكافئها و يحوذ مجددًا على ثقتها فيه و دعمها الكامل له بعد تلك العاصفة التي مرت بحياتهما في الشهور الماضية .  
عاد ذات مساء منهكًا بعد يوم شاق ليجد البيت خاليًا خاويًا على عروشه، رحلت صوفي و اصطحبت معها ليليان وكل متعلقاتهما الشخصية، أطلق صرخة مدوية اخترقت ظلام الليل البهيم، لقد أخذته صوفي على غرة، أحكمت تدبير الأمر و أجْهزت عليه فأصابته في مقتل.  
بحث عنها في كل مكان، أقسم له والدها أنه لا يعرف من الأمر شيئا، لم تخُصه صوفي بخبر،  لم تُشركه في أمرها، فقط أخبرته بإسم المصحة التي أودعت فيها جدتها أوجيني متعللة بإشتداد مرضها و حاجتها الشديدة لعناية طبية مستمرة، لم يشك في الأمر فلقد تحملت عنه ابنته وبكل ود وحب العناية بأمه العجوز المصابة بالزهايمر وآن لها أن ترتاح من عناء تلك المسئولية، ثم أطلق " السيد هيريتس" لعناته على شريف، فلم تعد صوفي إبنته كما كانت كسابق عهدها معه قبل أن تعرف شريفًا وتتخذه زوجًا، لقد اهتزت علاقتهما بظهورذاك الضلع الثالث الذي لم يكن مرغوبًا فيه ابدًا، لطالما كان شريف حاجزًا بينهما لم يستطع معه  السيد هيرتس أن يضمها الى صدره كما يضم الآباء فلذات أكبادهم، لم تنس صوفي أبدًا موقف أبيها الرافض لزواجها من ذاك الشرقي الأرعن طوال تلك السنوات، لم تكن ثمة علاقة تربط بين شريف و هيريتس حتى أن الأخير لم يحْمِد لشريف صنيعه حين قبِل بوجود والدته " السيدة أوجيني" في بيته، اكتفى بأن يرسل لها مبلغًا ضخمًا شهريًا لتتمكن صوفي من القيام بكل ما تحتاجه جدتها المريضة فما عساه يجمعهما الآن؟ تبادلوا الشجار والسُباب، و هذا جُل ما صار بينهما ثم صرخ كل منهما في وجه الآخر مذعورًا من حقيقة اختفاء صوفي و كأن خبر اختفاءها اعصارًا تدفق فجأة نحوهما في قوة و جنون وكلاهما لا حيلة له مع ذاك الإختفاء المؤلم.
ثلاثون يومًا كاملة قضاها شريف في بحث مُضن لا ينتهي عن زوجته وابنته دون أن يقتفي لهما أثرًا، وكأنهما قد تبخرا، وغاية ما وصل إليه أنهما قد غادرا البلاد عشية اختفاءهما من المنزل، حلقت بهما الطائرة الى ابردين بإسكتلندا، ثورة عارمة تمور في صدره،  دماء حارة تجري في عروقه كلما راودته ذكرى أيام سعيدة كانت تجمعه بهما
وأخيرًا وصلته رسالة تفوح بعطر صوفي و تحمل بين طياتها ابتسامات ليليان..
عزيزي شريف:- هذه هي ليلتي المائة بدونك، دون أن أنام بين ذراعيك، دون أن تشاركني فراشي فتختلط أنفاسنا معًا، لقد خذلتني وكسرتني، فبعد كل هذه السنوات و بعد كل ما جمع بيننا و كل ما حققناه معًا ها أنت تتذكر فجأة كل الفوارق التي تفرقنا و كل الإختلافات التي تحجب بيننا، الآن تحدثني عن الدين و البلد و العادات والتقاليد و كأنك قد أدركت للتو أنك شرقي ذو دم حام و أنا غربية دمي بارد، أنت مسلم وأنا مسيحية، و إن كنتُ أرى أنك رجل مهووس من بلد فوضوي سواء كنت مسلمًا أو مسيحيًا،  لقد تزوجتكَ شريف لأني أحببتك و بصدق، أحببتك دون أن التفت الى ما يفرق بيننا، أردت فقط أن ننصهر معا، أن أشاركك كل شئ و تشاركني كل شئ ، أن تكون لي أقرب من ذاتي ، أن أعبد الرب فيك ، أن أراه في وجهك و أسمعه في صوتك ، استغفره على صدرك و أُصلي له في محراب قلبك و هذه هي جريمتي و خطيئتي ، لكن الرب  أراد أن يختبرني بحب رجل مغرور، متقلب المزاج ، ضائع غريب الأطوار، فاقد الهوية ذو معالم منطمسة ، فالرجل الذي عشقته لا يريد لإبنتي الصغيرة أن تكون مثلي حين تكبر، يخشى على ابنته من أن تسقيها أمها عاداتها كما سقتها لبنها، يخشى عليها من تلك المرأة التي أحبها و أخبرها بحبه مرارًا وهو يُقبِل قدميها في لحظاتهما الحميمية ، وكان يستحم معها في حمام واحد و يشاركها فراشاة أسنان واحدة قبل أن يوقعا معًا على ورقة بالية في مكتب الشهر العقاري، ورقة  تُعلن للجميع أنهما زوجان ، ألم تُقسم لي حينما عرضتَ عليّ إرتداء قميصك بدلًا من بلوزتي التي قطعتها أغصان شجرة الزيزفون في رحلتنا الخلوية الأولى أنني زوجتك أمام الله قبل أن نعقد القران؟ أي قسم كان ذلك؟ و بأي إله أقسمتَ؟ هل يحنث الرجل بقسم أطلقه جاثيًا على ركبتيه أمام إمرأة ليخبرها كم يحبها ؟ هل كان قسمًا أم كان فخًا لإصطيادي ؟ هل كنتَ رجلًا آنذاك؟ خسارتي فيك أعظم من أن اتجاهلها وأُكمل معكَ طريقًا بدأناه متشابكي الأيدي منذ عشر سنوات و كأن شيئا لم يكن، أحببتكَ رجلًا ظننته صادقًا ولكني أدركتُ  غفلتي لاحقًا ، لقد تزوجتُ رجلًا أرعنًا أهوجًا كاذب بالفطرة ، تزوجتُ شرقًا مضطربًا تائهًا في مفترق الطريق، تزوجتُ شمسًا ملتهبة قاسية الشعاع تصهر الكون حولها،  تزوجتُ فكرًا مزدوجًا فوضويًا أنانيًا لأبعد حد، يبيح لنفسه ما يشاء وقتما يشاء، لقد تطهرتُ منكَ  ومن حبكَ و لا حاجة لي بك،  ليليان الآن تشاركني فراشي وسأكتفي بها ، كانت تسأل عنكَ كثيرًا حين حضرنا الى هنا دونك، كانت تسأل كل يوم فابتسم لها و أُضمها الى صدري بقوة و أخبرها أنك لابد آت عن قريب، فتضحك ببراءة وتطوق عنقي و تطبع قبلتها النارية على شفتيّ و تُعاود الركض خلف قطتها تلهو و تلعب، رويدًا رويدًا خفتت اسئلتها عنك و قلَّت مرَاتها ، يبدو أنها اعتادت غيابك و لم تعد تهتم و سيأتي يوم  لن تسأل فيه عنك، و أقسم لك بقدر ما أحببتك و بقدر خسارتي فيك سأحميها منك، سأمنعها عنك سأخبرها أنك كنتَ نخلة على شاطئ حياتي و قد اقتلعها التيار و قذفها بعيدًا بعيدًا جدًا
انتهت الرسالة و كادت أنفاسه تنتهي معها، ستحرمه صوفي من ليليان ، ستحرمه بهجة عمره و مضغة قلبه، لقد أقسمت على ذلك و ستبِر بقسمها، جمرة نار مستعرة استقرت في جوفه ،  طار الى اسكتلندا، جاب مُدنها و شوارعها، تفحص وجوه أفرادها يبحث بينها عن ضالته  المنشودة و كنزه الثمين، علم أن صوفي قد تركت البلاد في نفس توقيت إرسالها الخطاب له، هي تعرفه جيدا، تقرأ أفكاره، يمكنها التنبؤ بنواياه، تعرف مسبقًا أنه سيطير الى حيث تكون،  لقد ساعدها مصدر مسؤول على السفر إلى وجهة غير معلومة، دثرته الرهبة و أرهقه الفزع ، تملكه إحساس بالتضاؤل و زاد من تضاؤله أن خطر له أن صوفي تنتقم منه بالفعل و أن الأمر ليس غضبًا و سينتهي وليس مرارة و ستزول،  انقبض صدره و أحس قهرًا أجبره على العودة إلى حيث كان منكس الرأس، متهدل الكتفين.
حاول استرضاء السيد هيرتس لعله يحصل منه على ما يُفيد ، اعتذر له عما سلف ليرق قلبه ، أقسم أنه لم يسع يومًا الى إفساد علاقة الرجل بإبنته ولم يحاول، ولما عساه يفعل ؟ لقد أحب صوفي فعلًا و أخلص لها ولم يلتفت الى أي منغصات قد تعكر صفوهما، لم تطلب منه صوفي يومًا التقرب الى أبيها ولم يفعل هو ربما لقصور في فهمه أو رغبة منه في الإستحواذ على كامل إهتمام صوفي ، و لو كانت قد طلبت منه أن يعتذر لأبيها لنفذ على الفور دون مناقشة ، لكن الحقد الذي امتلأ به صدرالرجل على شريف قطع عليه كل الطرق، لقد انتزع  شريف إبنته الوحيدة منه انتزاعًا، لقد أراد لها أن تعمل معه ، أراد لها زوجًا من بني جنسها، بني دينها ،فالسيد هيرتس كاثوليكي متدين يحرص على إرتياد الكنيسة بإنتظام، كما كان في شبابه خادمًا في كاتدرائية كولونيا على نهر الراين، فهل ذاق شريف الآن من نفس الكأس الذي أسقاه لهيرتس؟ .  
خمس سنوات وهو حيران يحس في أعماقه عجزًا يخنقه ،هاجس يُسهد جفنيه ، أين  ليليان ؟ عشر سنوات مضت و هو يتساءل كيف صارت؟ عشرون عامًا مضت الآن لابد أنها استوت شابة يافعة جميلة مشرقة، لكنها حقًا صارت غريبة عنه حتى لو قُدر لهما أن يلتقيا فلن يعرفها و لن تلحظهُ ، يا إلهي ما أقسى عقابكِ يا صوفي و ما أبشع إنتقامك !.
 ولأن الطائر لابد له أن يعود يومًا عاد شريف الى وطنه وحيدًا، هزيلًا، هرِمًا، جسده يابس كالقش لا طراوة فيه، عاد مهزومًا، حاملًا معه قهره وألمه الذي اعتصر قلبه و نهش جوفه ، يضمه صندوق الموتى بين جنباته ليُصلي عليه أهالي بلدته في ريف مصر، ثم يسارعون به الى مدفن الأسرة ليُواري جسده الثرى، فلن يجد من يحنو عليه كتراب وطنه، يجمعه اللحد أخيرًا مع والدين حرمهما نفسه و بِرّه فحرمه الله ما تهفو إليه نفسه ، حرمه لقاء ليليان تلك التي تقف كل صباح ومنذ عشر سنوات في خشوع أمام  تمثال للعذراء مريم تُرتل صلواتها و تطلب رحمة وغفرانًا يتغمد روح والدها الذي توفي في حادث طائرة و لم يتم العثورعلى رُفاته، هكذا أخبرتها أمها التي ترملت شابة في السابعة والثلاثين من عمرها، ثم تُضئ شمعة وتُقبل صوفي و تسرع مغادرةٍ وهي تلوح لها مبتسمة فقد تأخرت وسيعاقبها مديرها لامحالة، فتبادلها أمها الإبتسامة و تودعها قائلة : - لا تتأخري كثيرًا في المساء، تذكّري أني هنا أتضور جوعًا في إنتظاركِ صغيرتي، أحبكِ كثيرًا، فأنتِ كل أهلي ليليان.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك