شعرية الرحيل.. قراءة في "هجرة أخرى" لـ"سهير فوزات"


الحافظ الزبور – كندا - مونتريال


لم تكن الشاعرة السورية/ الكندية.. سهير فوزات وهي تبدع بجمالية في قصيدة "هجرة أخرى " ... لم تكن تدري أيهما أرحم:
 الرحيل من بوابة المطار أم الرحيل من بوابة الشعر..؟؟؟
أو أيهما ..ألذ..؟؟؟   
حقيبتي مفتوحة كمغارة حزينة...
الشاعرة أمام احتقان فيزيائي ونفسي .. في تدبر "إجراءات "الرحيل".
ماذا سأحمل معي ..؟؟؟
.لابد من ولوج المغارة ...لابد من ولوج الظلام. .لن تعثر الشاعرة في ولوجها المغارة، قطعا ، على كنوز علي بابا ...المغارة  شبيهة بالنفق .. شبيهة بالحزن بل هي الحزن في رمته ... و المحمول أثقل من أن يلوح به في العراء ...لابد أنه خفي .. و مقدراته أكبر من يزج بها في حقيبة ...
ماذا سأحمل معي ؟
سؤال غريب .. وغرابته في إجاباته...ماذا ستحمل الشاعرة معها ..وهي في حيرة من هذا الخطب الذي ألمَّ بها فجأة...خطب الرحيل . الرحيل عن ماذا ..؟؟؟ لن تجيب الشاعرة الآن عن هذا السؤال...إلا بعد أن تحشو ،أولا، حقيبتها المفتوحة أصلا على كل الاحتمالات..والإجابات..ستحشوها لا محالة ...بكل متعلقات الرحيل..والحزن سيد الموقف ومعده...
كمغارة حزينة
لن تجد الشاعرة مفرا من مواجهة هذا الموقف "السوداوي"  ...سوى الاحتماء باليومي ، والتافه أحيانا والغير معتد به...  
أعواد تنظيف سمعي
ومعجون الضحك
نظارتي الواقية من التسلط
شهادة جامعية مختومة بالدم
ومصدقة بالتشرد
اليومي ، كصور شعرية باذخة وكمضامين منزوعة القناع .. هو ذاك اليومي  الذي يترنح بين السوداوية القاتمة والسخرية الجارحة..هل ستحل تقريرية هذا  اليومي كل الإشكالات الوجودية ..والاسئلة المصيرية في تجاوز حرج "الحالة" وامتداداتها ..؟؟؟
معجون الضحك
مختومة بالدم
مصدقة بالتشرد
ارتباط صدامي بين الدال والمدلول.. الضحك والتسلط والدم والتشرد ...مدلولات الجامع بينها تيمة "المقت" والمرارة... كل شئ جف ..كل شئ مقيد ..كل شئ يبعث على الفزع والخوف..
زهرة ياسمين يابسة
وضعها حبيبي في شعري يوما
فداستها فزاعة حب
العابا طفولية مقيدة   
بانوراما من الألم..تعم  تفاصيل تجربة حياة مهدورة.. من بقايا الطفولة حتى تخوم الذاكرة ...لم يعد هناك وقت للعيش الرغيد...بل لم يكن هناك اصلا عيشا رغيدا...وماذا بعد ..:
حقيبتي ضيقة
كعيشي لن اقفلها
لم يعد القلب يحتمل ولا الصدر ولا الرأس ...كل هذا الركام من تداعيات الألم والحزن...الحقيبة ضاقت..ضاق كل شئ...سيظل الحزن مستمرا في الزمن ..ونافذة مشرعة على كل الاحتمالات..لا يمكن التسليم .. بان كل شئ تم على مايرام..بمجرد التفكير في الرحيل ..كل الاستعدادات ستظل مرفوقة بالشك واللايقين..بالرغم  أن الرحيل ما هو الا لحظة أو  محطة مشرعة...
ستبقى لحظة الرحيل
محطة احتمالات

محطة لولوج ماذا ؟...ربما لولوج الآتي القريب على الأبواب..دون معرفة تفاصيله ..لكن قبل هذا الولوج ..لابد من التأمل ...لابد من الوقوف أمام المرآة..لالتبديد نرجسية..أو تعديل ندوب ...بل لتصفية حسابات مع الماضي "المضبب " ، مع "بروتري" جلاد ... يقينا جلادا منغصا ، ساد ، يتلذد بمحق تمليه جزمات مقرفة ...    تصفيات حسابات مع قهر ممنهج..اقل ما يوجب تمردا مستحقا ..بل لابد من "البراكسيس" الشامل قبل الرحيل ..لابد من عزل شوائب "الذات والموضوع " وتحييدها ..لتقبل فعل الرحيل فهو على مرمى حجر...لابد من "خلع الحزن" ...لابد من الاستحمام "النفسي " و"الوجودي".. للتخلص وللتجرد ،عنوة ،من ادران "المقت"    
أخلع حزني
أستحم لآخر مرة بغيمة متوسطية
تقلب أمام مرآة الماضي المكسوة بالشباب
أتأمل ندوبا تركها الجلاد في
ولآخر مرة...
ولآخر مرة ، ستجفف االشاعرة منابيع هذه الماساة المفروضة والمعلنة  ...وستنتصر للحلم كبوابة وحيدة للهروب من واقع متشظ ، وماض مفزع.. وحاضر  مأهول بالفراغ الانساني ، مؤثث بالعبث والضباب....ستقلع الشاعرة ،لا محالة ، وهي غير مبالية بكل هذا الركام العبثي، الا مبالاتها بالوطن ..الوطن خط أحمر.. ستفرغ حقيبتها كاملة من كل هذا التطاول على الكبرياء .. وسيظل الوطن شامخا ..محملا وحده  في حقيبة القلب والذاكرة...  
آخر مرة
أجفف نفسي بشمس جبلية
أرتدي اللامبالاة وأُعلق الحلم تميمة
أغلق حقيبتي الفارغة
وكسلحفاة تسكن عظمها وطنا
رغم المجهول فالشاعرة يحدوها الأمل..هناك بؤرة ضوء تتناهى في الافق ... لأن كل الحميميات، وكل الدفئ..   سيرافقها نحو هذا المجهول (الوطن والحبيب ، والطفلة..) هذا الزاد كله سيكون في أياد أمينة...  هناك شعور آن ومتوقع في آن ... إنه شعور وإحساس باذخ وخفي أيضا بصفو من الامان..رغم الاستعداد للرحيل نحو متاهات وهول المجهول.. ..فلا خوف عليهم جميعا ..مادامت القلوب تنز حرية .. مادامت غير منشغلة بتفاهات الجلاد ...
أمسك بيدي وطني :
في يد حبيبي
وفي يد طفولتي
ونبحر إلى المجهول
بقلوب مضرجة بالحرية           
"هجرة أخرى" ..عتبة النص كما يقول "جيرار جينيت"..هي المدخل ...بل هي التكثيف الزمني والوجودي والنفسي. لكل هذا الزخم الشعري الشاعري..وهي أكبر من ذلك تأريخ شعري  للحظة فارقة في حياة الشاعرة ..لحظة الهجرة... لحظة مغادرة الوطن والأرض والإنسان والأشياء...
ما معنى أن نغادر مكرهين كل ذلك  وبسابق إنذار...!؟؟؟؟
لا بد أن "هجرات اخرى" قد سبقتها عبر ممرات من علاقات في صيرورة الزمن وطبائع المكان وغرائب الوجود...لاندري ..لحد الساعة ... ما لونها .. لكنها قطعا .. عبر "الميتالغة" أو عبر "الانزياحات اللغوية " كما يؤشر "جون كوهن "  هي إعلان صارخ  عن ولموقف ..أو دعم شديد لتأثير.. أو شد مقصود لانتباه .. أو رمي موجع لصرخة في وجه من أخلع أردية الحريات ..وجعل الإنسان عار من كل شئ .. إلا من كبريائه.. التي هي حقيبته المثلى التي ستلاحقه في حله وارتحاله..
الحرية هي أكبر من أن تغني عنها أشياؤنا الصغيرة.. عبر الرحيل أو غير الرحيل...أو ما سوى ذلك...
ونبحر إلى المجهول
بقلوب مضرجة بالحرية..  
 
تنويهات:
*١ سهير فوزات شاعرة سورية من كندا (مونتريال )
*٢ قصيدة "هجرة اخرى " من ديو

 

تعليق عبر الفيس بوك