التاريخ العُماني

 

سلطان بن خميس الخروصي

 

يُشكل التاريخ الإنساني لأي أمة الرصيد الخالد للحفاظ على مصالحها والذَّود عن حياضها من خلال شحذ همم البشر نحو التضحية والفداء في وجه المعتدين، وقد تغنَّى كثير من الرّحَّالة بجمال عُمان عبر توالي الحقب التاريخية بما تتمتع به من تباين جغرافي وديموغرافي، فأضحت بذلك ديوانا للذكر الحسن ومشربا للمغامرين القاصدين مشارق الأرض ومغاربها حيث أفريقيا والهند والسند وما وراء البحار من مكامن سخيِّة متنوعة المقاصد والغايات؛ إذ كان بعضهم يَقدِمُ لهذه البقعة من العالم لدوافع سياسية أو عسكرية أو تجارية، والبعض الآخر كانت تجذبه نزرٌ من الخُرافات التي تحمل بين ثناياها شذراتٌ من شظايا الأساطير الغابرة، لتترك لنا بعد حين من الدهر شيئا من اللُقيا الأثرية وبعض البيوت المتهالكة وعدد غفير من القلاع والحصون الشامخة.

إنَّ ما يُميز هذا القُطر من الجزيرة العربية إلى جانب ما ذكره الرحَّالة والمغامرون السابقون واللاحقون حول وصفهم لجُغّرافية عمان وإِنسِها وحَكواتِ أحجارها الخالدة؛ كل ذلك جعل منها ملاذا آمنا للفن الدرامي بمختلف ألوانه وأطيافه؛ فجبالها الأخَّاذة، وصحاريها الساحرة، وبحارها المتلألئة، ونسيجها الاجتماعي المتنوع، وعاداتها المتباينة، وشواهدها التاريخية؛ كلها خلقت لنا ملحمة متكاملة لبناء نماذج درامية رائدة لكنها تترقب أن ينظر إليها المسؤولون بالدولة والجهات المعنية بالإنتاج الدرامي بعين الاعتبار!

 إن المُتتبّع لتاريخ الدراما العمانية وقُدرتها على استثمار التنوع البيئي والاجتماعي والتاريخي في البلاد يجد أن الأمر أقربُ لأن يكون هزيلاً وشبه معدوم باستثناء فلم "عمان عبر التاريخ" والذي بشهادة المتخصصين في الإنتاج الدرامي التاريخي افتقد الخبرة الإنتاجية في الإخراج والتمثيل واللمسات الدقيقة لتقديم العمل بصورة متكاملة للجمهور العماني والعربي، فلا نجد في الأعمال السابقة تنوعاً في مزج الأصالة العمانية مع امتطاء الخيول أو النوق أو صناعة الحرف التقليدية وتآلف الإنسان العماني مع المآثر التاريخية كالقلاع أو الحصون أو الفن المعماري كالمشربِيات والقَمَّاريَّات أو تجسيد للكتاتيب العُمانية التي خرّجت الفقهاء والعلماء وحفظة القرآن الكريم، كما أننا لا نجد عملاً دراميًا يُلملم الجُهد العماني في مختلف الأُطر السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في عُمان أو الخليج العربي أو الهند أو جنوب شرقي أفريقيا وغيرها من بقاع الأرض، أضف إلى ذلك أن الأوضاع السياسية والدينية والحضارية في عُمان قبيل الإسلام وبعده لا نجدها إلا بين قُضبان الكتب دون الاكتراث لإحيائها كنماذج تربوية وتوثيقية للأجيال القادمة مع العلم أن البيئة الجغرافية والديموغرافية مُهيأة أكثر مما سبق في إنجاز مثل هذه الإنتاجيات الثمينة بآليات عصرية حديثة، فكثير من دول العالم تنتشل حقبها التاريخية لتستقرأ واقعها المعاصر وتتحسَّس متانته وقوته؛ لتُريه أجيالها والعالم في صور درامية تمزج بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والفن وطبيعة الإنسان الجميلة؛ ليكون خير شاهد على ما مضى وخير مُستقرأ لواقع منتظر.

فاليوم المناهج شبه عارية عن ذكر أمجاد السابقين فهي تتطرق إلى بعض المواقع الأثرية وبعض الرتوش التاريخية، فمن يقرأ عن مجد الشخصيات العربية وأمجادها في بلاد الشام وبلاد الرافدين والمغرب العربي ومشرقه لن يستوعب المتغيرات والتجاذبات السياسية والقومية والدينية بحذافيرها، لكن حينما تسيّدت الدراما المسؤولية أخرجت لنا ماهية ووقائع الحجاج بن يوسف الثقفي، وعمر بن الخطاب، والخلافات الإسلامية بتسلسلها، والمهلب بن أبي صفرة، والمهلهل الزير سالم، والكواسر والنواسر، والظاهر بيبرس وقطز، وشجرة الدر، وغيرهم الكثير والكثير.

نحن بحاجة إلى أن نجمع ما تبعثر من أوراقنا في منظومة الإنتاج الدرامي الوطني التاريخي؛ حتى يتسنّى لنا فيما بعد أن نُبرر للأجيال القادمة حقيقة أننا أصحاب تاريخ عريق ومجد تليد يستحق أن يُروى للاستفادة منه، علينا أن نؤمن أن هذا العمل مُضنٍ ومُجهد لكن بالمقابل علينا أن نتيقن أن تخليد مثل هذه الأحداث في الكتب أصبح غير مقبول للجيل الحالي في ظل الثورة التكنولوجية المهولة؛ وذلك يمهد لاستغلال المواقع والشخصيات والإنجازات الفكرية والأدبية والسياسية من قبل من يتاجرون بالمال لشراء أمجاد الآخرين، فلا غرابة أن تُسلَّ هذه النماذج الرائدة من مهد عُمان الطاهرة وتلقى في حِجرِ الآخرين وتخرج كإنتاج درامي مُتقن وبمواصفات عالمية تُغالط الوقائع والتاريخ، فعُمان تمتلك ظواهر الإبداع الدرامي وبواطنه لكننا نفتقد إحداثيات المربع الأول للانطلاق في بيئتنا الدرامية التاريخية العُمانية والعربية والعالمية، وذلك يُحتِّمُ علينا ضرورة إشاعة ثقافة استثمار الإنتاج الدرامي كمصدر اقتصادي واستثماري للقطاعين الحكومي والخاص على حد سواء؛ فما الإقلال في مثل تلك النماذج إلا بسبب عزوف القطاع المؤسساتي كُليا عن تبنِّي مثل تلك المشاريع الدرامية والتي رُبما يكون مردُّها ضعف التسويق الإعلامي لها،  فمن الضروري بمكان خلق استراتيجية وطنية لاستثمار رؤوس الأموال الحقيقية لإنعاش الدراما العُمانية التاريخية.

sultankamis@gmail.com