الكفيـــــــف


عبد الله زيادة - فلسطين


في الطريق إلى جامعتي ..كان النّور ُ خافتّا ً.. وأنا أسدّل ستائر الباص .. وأحتسّي قهوّتي السّادة .. لأغرق في عالم المتابعة الشيّقة لكل تلك الغابات والأنهار التي ترافقني في هذا السفّر الطويل.. دخلت عجوز تبلغ الثمانين عاما ً لم يقف لها أحد .. فوقعت في حيّرة ٍ ما بين واجبي كإنسان ولحظات المتابعة النادرة .. لكن حتّما ً انتصر الإنسان الذي بداخلي .. فأفرغت مقعدي لها .. شكرّتني بصوتٍ خافت ثم جلّست.. أنا لا أطيق الأزمات ولا أحب الضجيج ..هكذا خلقنّي الله .. بعد مسافة ٍ طويلة ترّجلت العجوز وغادرت مكانها .. الصدفة أنها نزلت في المحطة ذاتها التي أقصدها .. ساعدتها لتقطع الشارع الفسيّح .. ثم دفعني الفضول لسؤالها عن حالها؟ كانت الإجابة صادمة لي .. حينما علمت أنها كفيفة .. وأنها لا ترآني سوى بقلبها .. بل وصفتني أكثر من المبصرين .. عرفتني أكثر منّي.. كانت تذرف الدمع في كلماتها.. وكأنها تخفي أوجاعها في عكازّها الدليل الوحيد لها في هذا المسار المظلم .. فقّدت زوجها وأبناءها في يوم ٍ واحد .. فرحل بصّرها معهم .. كانت تخاطبني بحرقة الفاقد .. أوصلتها بيتها الصغير.. غرفة واحدة تكفي وحدتها الباقية .. طلبت مني أن اعيش معها .. وافقت فورا ً .. ثم جاهدت ُ نفسي أن أكون خادما ً مخلصا ً.. عشّت ُ معها عامين ثم تهّاوت فجأة.. على فراش الموت فقط.. قالت لي إنها تبصرني..
فقلت لها كيف .. قالت حينما تموت الروح .. تتخلص من عذابها الدنيوي .. فتبصر .. وها أنا أراك .. لكن مع كل أسف من عالم ٍ آخر .. من نافذة جديدة .. بتُّ فيها أكثر شبابا ً وحيّوية .. أبصّرك أنت الوحيد .. لأنك كنت عينّاي المغلفة بالظلام .. فأدركت ُ كم من الحيرة واللغز يحمل هؤلاء في مضمونهم .. كانوا يرّون الحياة بطريقة مختلفة عنّا تماما ً.. فنحن نرآها متاعا ضخما ..بينما هم.. يرونها أدنّى من جناح ِ بعوضة.. تماما ً كالكتاب المبيّن .. فمن المبصر إذا ً ومن الكفيّف !!!

 

تعليق عبر الفيس بوك