"بيت السودان".. صناعة الدهشة في مهارة السرد

...
...
...


منذر عبد الحرّ - العراق


يضع الروائي العراقي محمد حيّاوي لخريطة عمله السردي، في الغالب مثابتين مبهرتين، الأولى مطلع النص، والثانية في خاتمته، ليزجّ قارئه في دوّامة تساؤلات تنمّ عن قدرتة في أداء حرفة الروي في أعلى درجات المهارة والخبرة والموهبة، ولعل "بيت السودان"، روايته الأخيرة التي صدرت عن دار الآداب البيروتية العريقة، خير شاهد على ما ذهبنا إليه.
 تبدأ الرواية باستهلال محلّق، يضعني شخصيًا في ميدان فهم ما سيعمل عليه الروائي، الذي يعمل وفق بعدين كما أعرفه، الأوّل أفقي يتمثّل في واقع يستشفه محمد حيّاوي من خزين ذاكرته المعبأة بالحكايات والأحداث والرؤى، والثاني عمودي يصنعه من حلم متداخل وُمداف بالرؤى المعرفيّة التي يضخها في النصّ بطريقة خاصّة تمنحها ما يشبه الأجنحة السحرية، لتتماهى مع بعده الثاني، فيكون عمله السردي في المحصلة محيّرا، فهو سهل محبب من جهة، وصعب مموّه فيه مكر فنّي من النادر أن يتوفّر عند كاتب عربي من جهة أخرى.
ومما جاء في الاستهلال، "لو أصغيتَ جيّدًا، فستسمعُ نقر الدُّفوف، وإذا كان الليلُ رائقًا والقمرُ متواريًا، فسيكونُ في إمكانك رؤية أعمدة النور تنبعثُ من الرمادِ وترقصُ فوق الحطام رقصتها الأبدية".
خدعة روائية:
يدخلنا الكاتب مباشرة إلى المثابة الأولى، التي هي بمثابة خدعة روائية جميلة، تبرر الإسترسالات التالية، ذلك أن المونولوج الساحر، الذي يبدو كعازل شفاف، يُفضي إلى ضجيج الأحداث، يقسم الذات إلى شخصيات تتحاور أو تتهامس، من أجل أن ندخل الفضاء الغريب الذي رسمه الروائي ونتعرف إلى شخصياته الإشكالية القلقة التي انتزعها من جسد المجتمع، فكانت علامة فارقة فيه، ولا غرابة في أن تكون نساء "بيت السودان" هُنّ "نساء خان الشّابندر"، ولا غرابة في أن توضع الشخصيات المستلّة من لغز التاريخ في متن النصّ بقوة ودراية، فـ "ضمد" في "بيت السودان" هو "مجر" في "خان الشّابندر"، أما النساء فهنّ "جميعا لا بيوت بديلة لهنّ ولا عائلات، أغلبهن التقطتهن "عجيبة" من الباحات الخلفيّة لمستشفيات الولادة، أو أتين بأرجلهن هربًا من فضيحة ما في مدنهن البعيدة"، لكن الأمر الذي ظلّ يحيّر البطل "علاوي" ويحيّرنا معه هو "كيف تصادف أن يكنّ جميعًا من ذوات البشرة الداكنة؟".
إذن، هي التقاطة تستحق الوقوف الطويل عندها لأن نسج حكايات بعضها في غاية الغرابة، أما البطل "علي" أو "علاوي" فهو الشخصية الاستثنائية والمحور الذي تدور حوله الحكاية كلّها، وهو الأبيض الوحيد لامرأة جميلة، اتضح في اللحظة الأولى من أسلوب السرد أنّها ليست أمّه، وتظل مباغتتها العاطفية المجنونة مرتقبة في أيّ لحظة لتعذّب القارئ وتزيد من شغفه!
مفهوم الشرف:
يتميّز محمد حيّاوي بدقّة الوصف، حدّ أنّه يشعرنا بحرارة انتمائنا للفضاء الذي يرسمه لنا، كما إنّه يختار شخصياته لتكون نماذج غير تقليدية، لاسيّما شخصية "السيّد محسن" التي جاءت كإشارةٍ لرمزٍ في غاية الأهمية والتأثير في مسار الأحداث، وبالتالي لتكون سببًا ـ دلاليًا ـ عميقًا على خراب هذا الفضاء النقي المتمثّل في "بيت السودان"، وبمفارقة ذكيّة تؤكد العمق الفلسفي لمفهوم الشرف لدى الكاتب، وهو مفهوم أشاعه الأخير بدفق إنسانيّ في روايته المهمة "خان الشّابندر"، فنراه يحرص في "بيت السودان"، وبواسطة "ياقوت" ذات الشخصية القويَّة المتسلطة جمالًا وفطنة وحضور ذات، أن يكرّس مفهوم الشرف والعفّة نتيجة لإصرار "ياقوت" على أن يبقى بيتها نظيفًا لا يدنّس، على الرغم من أنّه يتعاطى المتعة بواسطة الغناء والرقص، لكن بكل هيبة واحترام، وحتى الرواد، باستثناء شخصية "سيِّد محسن" المتناقضة، هم من الأشخاص ذوي السمعة الطيِّبة الذين يتمتعون بالشهامة والنبل والإيثار.
الرواية تنطلق من ماضٍ ليس بعيدًا، لتمرّ على أحداث وحروب العراق وتحوّلاته وحصاره وتأثّر المجتمع العميق بتلك المتغيّرات القاسية والمعقدة والصعبة في عمومها، وانعكاس ذلك على "بيت السودان" وأبطاله، لاسيّما "علي" و"ياقوت" والشخصية اللغز "ضمد"، ولعلّ نسج الأحداث برشاقة على وقع الحروب وضراوة الحصار، أعطى للرواية تماسكها وعدم استفاضتها بالأفكار والتصوّرات الزائدة، وصولًا إلى دخول القوات الأمريكية وإسقاط النظام العراقي، وموقف القوى التقدمية متمثلة بشخصية "عفاف" الفتاة المناضلة والمغامرة في آن، التي تعدّ في النتيجة النهائية لمسار الأحداث، هي الحقيقة الوحيدة التي لا لبس فيها، لتنقذ البطل "علي"، أو تحاول أن تنقذه من ضياعه وهروبه إلى الوهم، وفق البعدين الأفقي في بيت السودان، والعمودي في رؤاه الداخلية التي لا يمكن أن نجزم بحقيقتها كما أراد الروائي ذلك.
أساطير بلاد سومر:
في رواية "بيت السودان" ثمّة تسريب لمعلومات مهمّة مستلّة من أساطير بلاد سومر، منحها حيّاوي بعدًا سرديًّا محببًا، مثل حكاية "انخيدونا" كاهنة أور الكبرى وشاعرتها العظيمة، التي كانت شابّة عندما مات محبوبها ومعشوقها وابن أخيها الملك نرام سين، فقررت ترك المعبد والموت معه، مصطحبة معها جميع خادماتها وخبزهن وقيثارتهن، ومعلومات أخرى ورؤى معرفية وأسرار وألغاز وكتابات يخفيها الشخصية اللغز "ضمد" ليكشف لـ "علي"، وبالتالي لنا نحن القرّاء، تفاصيلها المدهشة بالتدريج حين يقرأ الرُقم والألواح السومرية بطريقة اللمس، وغير ذلك من التفصيلات والمكتشفات التي تعطي الرواية قيمًا مضافة.
أما الحديث عن السرد واللغة في الرواية فيطول، لأن المبدع محمد حيّاوي يشتغل في نصهِ على صياغات لغويّة تعتمد الجملة المكتنزة المكثفة، كما إنّه يفجّر حكايات متناثرة من أصل الحكاية الرئيسة، ليعطي تشويقًا وعمقًا دلاليًا لشخصياته، مثل قصة "الدكتور رياض" وعزوفه عن الزواج بسبب حبه الأسطوري لراقصة سيرك مصريّة صادفها في شبابه، إضافة إلى المسارات المبهمة قصدًا لشخصية الجدّة "عجيبة" و"ضمد" وغيرهم.
إيقاع السرد:
العمل الأدبي الناجح يشبه القطعة الموسيقيّة المتقنة في تأثيره، ذلك أنه، لا يوجد تأثير أكثر قوّة على المتلقي من الموسيقى، ولستُ هنا بصدد تلك الموسيقى الناتجة عن فعل التعامل مع الآلات، بل في الآفاق الأوسع لهذا المفهوم، تلك التي تشمل أصوات الطبيعة في جميع مدياتها، لذلك فإن أيّ عمل إبداعي مؤثر لا بدّ أن يحمل إيقاعًا موسيقيًا معيّنًا، وقد يفلح السرد في إنشاء موسيقاه الخاصّة حين يُمسك بزمام الحكاية ويُرتّب تضاريس عملها على جسد النص.
ووفق هذا التصوّر، الغريب بعض الشيء، يبني محمد حيّاوي في "بيت السودان"، وقبلها في "خان الشّابندر" أيضًا، إيقاعه السرديّ الخفيّ، ذلك الإيقاع الذي يبدأ بسيل هادئ في ظاهره، لكنّه مضطرب مجنون في إشاراته التي تؤسس لكيانات لا تلمس أرض الواقع، بل تحلّق قريبة منها، مموهة إيّانا، لتكون عصيّة على الإمساك الدلالي المباشر، فتغدو منطلقًا ملحميًّا للسحر الذي سيأتي، الأمر الذي يجعل المتلقي مستنفرًا  طاقته كي ينصت للآتي وهو في أتم الاستعداد النفسي له، حتى يُسدَل الستار وتبدأ الرحلة منسابة باسترخاء تام يتصاعد إيقاعيًا مثل رقصة تؤديها إحدى فتيات بيت السودان، لكن بطريقة إحساس أخرى حين تتصاعد حرارة الرقصة لتبلغ متكأ توتر جديد في حدث مبهر، تأتي به إحدى شخصيّات رحلة القصّ. بعد أن اعتمد الكاتب في "بيت السودان" تقنيّة "السرد المُتقطّع" أو "السرد المتناوب"، وفيهما "يُبنى العمل على نظام مخالفة التسلسل المنطقي لوقوع الأحداث، إذ يبدأ السارد في تقديم الحكاية من آخر الأحداث، ثم ينتقل بعدها إلى أول حدث، مُعتمدًا على تقنيات كتابية متعددة، مثل الحذف والاسترجاع والتلخيص والوصف وغيرها".
أيقاع موسيقي:
إن محمد حيّاوي يرسم دائرة زمنية لمسار أحداث روايته، حين يبدأ من النهاية، بتمويه صوريّ يقترب من الحلم، يسعى بواسطته لتأكيد طبيعة شخصيّاته القلقة في أغلبها، فـ "ياقوت"  و"علي"  و"عفاف" و"ضمد" مع الشخصيات الساندة الأخرى، تمثّل الجوق الإيقاعي على الرغم من انفراد كلّ من تلك الشخصيات مسار معيّن، لكن منتظم بدقةٍ متناهية في عزفه المنفرد، ليأخذ دوره في الفضاء السمفونيّ المرسوم، ولابدّ هنا أن نستشهد بمعلومة فنية ـ نقدية مهمة تقول "كثيرون عابوا بيتهوفن عدمَ قدرته على كتابة عمل موسيقي متعدد الأصوات (بوليفوني)، خصوصاً ألحان الـ "فوغ" المتميزة بصرامتها التركيبية. وهو بالفعل ما عاناه حين كتابة قداس، حدّ أنه طرد خادمتيه، بعد أن ظل يسجل النوتات لساعات طويلة من دون جدوى. وفي صباح اليوم التالي وجدوه في حالة يرثى لها، جائعًا ورثّ الملابس. لكنّه بعد ثلاث سنوات تمكن من كتابة قداسه الخاص".
إن هذا القلق الخلاّق يعيشه محمد حيّاوي، لكنّه خفيّ ومتوارٍ عن الأنظار، فلا أحد يلاحظ نتائج قلقه على يومياته، على الرغم من أنّها تتجلّى بعمق في إيقاع نصّه، ذلك لأنّه ليس من السهولة ـ وفق المنظور النفسي ـ أن نجعل البطل الذي نحبّه، والذي يمثل بشكل ما، صورة من ملامح شخصية المؤلف ذاته، الذي يجيد توزيع خصائصه في هواجس أبطاله فيتوزع عليهم من أجل أن يبني ملامح الحكاية.
مهارة إيمائيّة:
لقد تميز بيت السودان ـ المكان ـ باختيار شخصياته، فهم مجموعة مستلّة من مجتمع لا تمثل هذه الباقة إلا القليل النادر منه، جمعهم حيّاوي بمهارة حول "عليّ" المختلف، المترف بالدلال، الغارق في حب الجميع له، وهو يمثل بؤرة الحكايات مجتمعة، هذه الحكايات التي يبثّها المايسترو من خلال الحركة الإيمائية الأولى "لو أصغيت جيّدًا، فستسمع نقر الدفوف، وإذا كان الليلُ رائقًا والقمرُ متواريًا، فسيكون في إمكانك رؤية أعمدة النور تنبعث من الرماد وترقص فوق الحطام رقصتها الأبديّة". من المخاطب هنا على وجه التحديد؟ ومن هو الذي يطلق الخطاب؟ بالتأكيد هو ليس عائما، لكنّه استهلال يحيلنا إلى مهمة الموزع الموسيقي الكامنة في تدوين اللحن واختيار وتحديد السرعة والإيقاع والجو الموسيقي العام وتوظيف الآلات الموسيقية التي تخدم في المجمل الجمل اللحنيَّة وتوزيع العازفين.
لقد قلتُ في مقال سابق عن رواية "بيت السودان" أن هناك مثابتين في العمل، يرتكز عليهما السرد كلّه، هما روح التجديد الروائي الذي أنجزه الكاتب، وإذا قلتُ بأنه كان موزعًا موسيقيًا أو مايسترو، فذلك لأنّه جعل من أبطالهِ عازفين، وجعل من المثابتين المذكورتين عزفًا جماعيًا محلقًا ومنفصلًا عن جسد مقطوعته الموسيقية التي حدد سرعاتها وطبقاتها وطبيعة رقصاتها أيضًا، وقد نجح بذلك في رسم الإيقاع السرديّ المدهش لروايته.
لقد اخترتُ هذا المستوى من مستويات التعبير في الرواية، مؤملا نفسي بالإطلالة وفق مستويات فنيّة وقرائية أخرى تستحقها تجربة الروائي المبدع محمد حيّاوي.

 


* كاتب وشاعر وروائي وباحث عراقي أصدر العديد من الدواوين والروايات والدراسات النقديّة.

 

تعليق عبر الفيس بوك