لغة الرحيل

زمزم الزيدية

لحظة صمت تتوسط ميلاد طفل حديث العهد، يبكي بصوت عال، ويناغي ببراءة، ويصرخ إذا جاع وتألم، لم يُدرك مرارة الفراق، ولا كلمات البُعد والرحيل.

ميلاده كان نقيا طاهرا ، مجردًا من الكُره والحقد والإيذاء، لا يعرف من العالم إلا صوت أمه ورائحتها، ترعرع طفلا بين أحضان أمه، ثم انطلق مع صحبه يلعب بصخب وشغف، وفجأة سمع صراخا وعويلا، وأفواج من الناس يجتمعون حول بيتهم، امتلأ  قلبه بالخوف، فانطلق إلى جارهم الهَرِم ليسأله، فأخبره أن أمه ماتت، اختبأ خلف شجرة المانجو يمسح دموعه، ويتذكر أنها كانت تناديه قبيل وفاتها ولم يجب، وكم كانت تخشى عليه البرد القارس والجوع المؤلم وهو لا يجيبها، وكم دافعت عنه حين أصابته صفعات من إخوته، من كأمه لا تكل ولا تمل، فقدها دون وداع، ودون أن يشبع منها، حينها أدرك لغة الرحيل، وهو لم يتجاوز ربيعه العاشر؛ فكان الصمت يخيم عليه أياما.

فبَيْن لحظة صمت يسودها الفرح والسعادة، تأتي لغة الرحيل، لتعلن لنا أن اللقاء والفرح الذي رسمناه في حياتنا سويا قد انتهى، وأصبحنا تائهين بعد أن جمعنا القدر، وأصبح الرحيل يمزق حياتنا ويشعرنا بحزن عميق أشد قسوة مما كنا نعتقد.

لغة الرحيل.. أصعب من الكلام الذي يُقال، ونظرات الصمت المليئة بالدموع أصعب من النظرات التائهة والحائرة في وجوه الأشخاص الذين سوف يتركونا، حينها لا يبقى لنا سوى صخب الهدوء وضجيج الصمت اللذين يظلان رفيقي الهدوء.

وداعًا لمن رحلوا قبل أن تشبع العيون من النظر إليهم، ولم تمتلأ القلوب من صدى صوتهم؛ فرحيلهم حكاية، دمعة صامتة لا تعرف إلا الصمت.

تعليق عبر الفيس بوك