نقل السفارة الأمريكية للقدس.. نظرة مغايرة

 

عبيدلي العبيدلي

وفقا لما تناقلته وسائل الإعلام، هناك "ما يزيد على 59 فلسطينيا على الأقل قد لقوا مصرعهم، بينهم ستة أطفال، آخرهم طفلة لم تتجاوز الثمانية أشهر، كما جُرح أكثر من 2800 فلسطيني خلال مشاركتهم في مسيرات العودة التي انطلقت في منطقة الجدار العازل في قطاع غزة ضمن إحياء الذكرى الـ 70 للنكبة والتي تزامنت هذه السنة مع افتتاح السفارة الأمريكية في القدس".

ردود الفعل العالمية، كي لا نقول العربية، تواردت نصوصها على النحو التالي، كما جاءت في وسائل الإعلام المختلفة:

ندد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "بالعنف ضد المتظاهرين الفلسطينيين في قطاع غزة، مجددا التأكيد على معارضته لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس". واعتبرت الخارجية الفرنسية، "القرار الأمريكي يتناقض مع أعراف القانون الدولي".  في الوقت ذاته جددت بريطانيا، أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة "التأكيد على موقفها من نقل السفارة. وقال المتحدث باسم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في تصريحات صحفية، أن رئيسة الوزراء (أكدت)في ديسمبر، عند إعلان القرار لأول مرة، إننا نختلف مع قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل قبل التوصل لاتفاق نهائي بشأن وضع المدينة. مقر السفارة البريطانية في إسرائيل في تل أبيب وليس لدينا خطط لنقلها". على نحو مواز "أعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن موقف موسكو السلبي من نقل السفارة الأمريكية لدى إسرائيل إلى القدس. وقال خلال مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره المصري سامح شكري: نحن على قناعة بأنه لا تجوز إعادة النظر بمثل هذا الشكل الأحادي الجانب في الاتفاقيات التي تم تثبيتها في القرارات الدولية".

تحاشيت نقل ردود الفعل العربية والإسلامية، كي لا يقال إنها "منحازة" للقضية الفلسطينية، ومن ثم فمواقفها شبه متوقعة، وأبرزت تلك التي صدرت ممن يعتبرون، مثل بريطانيا، أقرب الحلفاء للولايات المتحدة، وتحكمهم علاقات تاريخية إيجابية مع الكيان الصهيوني.

إذا وضعنا جانبا ردود الفعل العربية التي غلب عليها الانفعال، الذي قد يريح النفس لكنه لا يخلي صاحبه من المسؤولية، وحاولنا قراءة المشهد السياسي بعيدا عن ذلك الانفعال، ومن منطلقات استراتيجية تطمح لمعالجة الصراع مع الكيان الصهيوني على مرتكزات علمية، فسوف نكتشف، خلافا للنظرة السائدة، ان الخطوة الأمريكية –الصهيونية، بالإضافة إلى صلافتها، إلا أنها تنم عن ضعف يعصف بالطرفين المتحالفين: الحركة الصهيونية والولايات المتحدة.

تكشف عن ذلك الحقائق التالية، التي رافقت الحدث، منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن عزمه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس متحديا بذلك القوانين الدولية التي تحكم مسيرة الصراع الفلسطيني – الصهيوني.

  1. طبيعة ومحتوى الكلمات التي ألقيت خلال حفل الانتقال، ومن الأكثر أهمية بينها تلك التي ألقاها رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو، حيث تحاشى الخوض السياسي في التاريخ الحديث، واستعان بالخلفيات الدينية للحركة اليهودية، مستجديا في ذلك عواطف المؤسسات الدينية غير الإسلامية، بعد ان زور الكثير من الحقائق التي ليس هنا مجال سردها. هذا ينافي الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية التي لا تكف عن موضعة ذلك الكيان، على أنه الأكثر "تقدما" و"معاصرة" من الأنظمة العربية المحيطة به، وهذا ما يبرر، من وجهة نظر الكيان، ضرورة تعاطف المجتمع الدولي معه.
  2. سلوك نشر السفير الأمريكي لدى ذلك الكيان، ديفيد فريدمان، الذي أصر، قبل أيام، على الحضور شخصيا كي يؤكد الدعم السياسي على "الاستعدادات الجارية في المجمع الذي يضم السفارة الأمريكية في القدس تمهيدا لافتتاحها، (عندما ظهر، وخلفه لافتة مكتوب عليها تقول: ترامب يجعل إسرائيل عظيمة)". لكنه، هو الآخر، لم يكن في وسعه الخوض مطولا في قضايا سياسية تخص ذلك الاحتفال، واكتفى بسرد قائمة مطولة، ومملة في آن، سرد فيها أسماء الحاضرين، ممن اعتبر حضورهم مهما في هذه المناسبة. خلت كلمته من أي مدلول سياسي يبرر مثل هذه الخطوة التي، بغض النظر عن موقفنا منها، كان يفترض أن تكون كلمة سياسية تبرر ذلك النقل، وتفسره.
  3. المشاركة السياسية الخجولة وغير المشجعة من قبل السلك الدبلوماسي الممثل في الكيان الصهيوني، فمن بين 83 سفارة وجهت لها العوة للحضور، لم يكن هناك أكثر من 32 سفارة معظمها من الدول الصغيرة التي اضطرت للحضور خشية من نتائج الابتزاز الأمريكي، بما في ذلك قطع المساعدات عن بلدانها.

ردة الفعل المؤثرة والفاعلة، والتي لم تستطع أي من وكالات الإعلام العالمية تجاوزها، كانت الوقفة الشجاعة الجريئة التي عبر بها الفلسطينيون عن رفضهم لهذه الخطوة الأمريكية، وجاءت في مسيرات العودة التي كانت قمتها تلك التي رافقت احتفالات نقل السفارة، وكان ثمنها ما يربو على 2800 جريح، وما يزيد على 60 شهيد، لم يتردد الشعب الفلسطيني في تقديمهم تعبيرا عن إصراره على مواصلة مسيرته من أجل استعادة حقوقه التاريخية والشرعية التي تعترف بها القوانين الدولية.

محصلة القراءة المتأنية لمشهد ذلك النقل تقول، انه، ومن المنظار التكتيكي الآني، ربما يكون الكيان الصهيوني، بفضل الاختلال الراهن في موازين القوى لصالحه، قد حقق ما يمكن ان يصنف على انه انتصار، لكنه انتصار آني ومؤقت، وغير مؤثر بشكل استراتيجي في مسيرة الصراع الفلسطيني الصهيوني، أما على المنظور البعيد المدى والاستراتيجي، فهو تجسيد ملموس، كما تؤكد الإشارات الثلاث المرصودة أعلاه، على بداية  التآكل داخل المؤسستين الأمريكية والصهيونية على حد سواء، وبوادر على بداية الاختلال في موازين القوى لصالح القضية الفلسطينية.

تبقى مسألة في غاية الأهمية، ولا بد من الإشارة لها هنا، وهي أنه لأي صراع في التاريخ هناك طرفان، وقياس موازين القوى لا بد لها من تقدير قوة الطرفين. وعليه، فإن التراجع في القبضة الصهيونية لن تتراخى، ما دام التمزق مستمرا في كيان الثورة الفلسطينية، والصدمات لا تتوقف بين فصائلها. ومن ثم تبقى وحدة تلك الفصائل، وعدم تضارب مصالحها، عنصرا رئيسا في قلب موازين القوى، وعاملا لا يمكن المساومة عليه، إن شاءت الثورة الفلسطينية أن تحقق آمال شعبها في استعادة الوطن السليب.

قد تبدو هذه النظرة مغايرة لما قيل بشأن نقل السفارة، لكنها نظرة تستحق التوقف عندها، والتأمل فيما تتحدث عنه.